هل تلجأ مصر إلى سلاح القوى الناعمة لحل أزمة سد النهضة الإثيوبي.. سؤال بات ملحًا في طرح نفسه، وخاصة عقب الزيارة التي قام بها مؤخرًا بطريرك إثيوبيا متياس الأول إلى مصر ولقاء الرئيس السيسي به، والبابا تواضروس بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، وفضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب، وزيارته لعدد من المناطق الأثرية في مصر على رأسها المتحف المصري. واكتسبت زيارة البطريرك الإثيوبي لمصر أهمية خاصة، حيث إنها تأجلت عدد من المرات خلال العام الماضي بسبب العلاقات بين البلدين واختلاف الرؤى حول سد النهضة، حيث تمثل الكنيسة الإثيوبية ثقلًا خاصًا في الدولة الإثيوبية رغم تقلص نفوذها عن الماضي، حيث تستحوذ على 50 مليون نسمة تقريبًا بجانب دورها العام والتنموي في المجتمع الإثيوبي. ولكن السؤال المطروح عاد ليطرح نفسه مرة أخرى وهو هل الحفاوة الكبيرة التي قوبل بها البطريرك الاثيوبي من الدولة المصرية وعلى رأسها رئيس الجمهورية وأيضًا الاستقبالات الشعبية الحافلة الذي قوبل بها في كل مكان ستكون عامل مهم في تحسين العلاقات بين البلدين على المدي القريب حيث تابع الإعلام الاثيوبي على مدي أسبوع تلك الحفاوة وتقدير الدولة المصرية لاحد أهم الرموز الدينية الإثيوبية وهي خطوة هامة ستساهم في حل الكثير من المشاكل بين البلدين وعلي رأسها مشكلة سد النهضة التي تسببت في أزمة حادة بين مصر وإثيوبيا خلال الأعوام الماضية. وللإجابة عن هذا السؤال، أكد سياسيون أن زيارة الأنبا "متياس" بطريرك الكنيسة الإثيوبية، إلى مصر، تعتبر خطوة على طريق ترسيخ العلاقات بين مصر وإثيوبيا وحل أزمة سد النهضة، مشيرين إلى أن العلاقة بين الكنيستين تاريخية، حيث كانت الكنيسة الإثيوبية تابعة إداريًا وكنسيًا للكنيسة المصرية وبابا الإسكندرية كان يقوم برسم بطريرك إثيوبيا، لكن بعد فترة انفصلت الكنيسة الإثيوبية إداريًا عن مصر ولكن ظلت تجمع الكنيستين الأسرة الأرثوذكسية واستمرت العلاقات حتى الآن، ترسل الكنيسة الإثيوبية مندوبين منها للمشاركة في انتخابات بابا الإسكندرية. وأشاروا إلى أن الكنيسة الإثيوبية أيام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر كانت رمزًا دينيًا وسياسيًا، أما الآن فليس لها علاقة بالسياسة لكن يمكن أن تقوم بدور وطني تنسيقي وتساهم في تلطيف وتوطيد العلاقات بين البلدين في إطار القوى الناعمة. وأوضحوا أن توقيت زيارة متياس لمصر مهم لأنه يؤكد قوة العلاقات التاريخية والثقافية بين البلدين، مشيرين إلى أن هذه العلاقات ستساهم في الوصول إلى حلول مرضية للطرفين في القضايا العالقة مثل أزمة سد النهضة، وأن الزيارة تعنى أن الدولة بدأت تبذل جهودها في أكثر من طريق للوصول إلى نتائج إيجابية في مفاوضات سد النهضة، وأن زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي ونشاط الدبلوماسية الشعبية واستخدام الدين في حل الأزمة هي كلها طرق تكاملية من أجل تدعيم المفاوضات وخلق جو ملائم للوصول إلى حل للأزمة الحالية. وشددوا على أن حل أزمة سد النهضة لن يكون إلا من خلال مفاوضات جادة بين البلدين لتقديم خدمات كل منهما للآخر. وخلال النصف الثانى من عام 2013 وأوائل عام 2014 جرت مفاوضات مطولة رسمية بين مصر وإثيوبيا حول سد النهضة التي تزمع إثيوبيا إنشائه على النيل الأزرق وآثاره السلبية على مصر وهى المفاوضات التي أعلنت وزارة الموارد المائية والرى المصرية في 10/2/2014، فشلها بسبب تعنت وعدم استجابة الجانب الإثيوبي للمطالب والاقتراحات المصرية حول بناء سد النهضة وذلك بصورة غير مبررة رغم وجاهتها وأهميتها مما يثبت أن إثيوبيا لا تعطى المشكلة القدر الكافى من الاهتمام والجدية. لقد بدأت مصر أولى خطواتها لمواجهة تعنت إثيوبيا في ملف سد النهضة والحفاظ على حقوقنا المائية منذ أعلن د. محمد عبد المطلب وزير الري السابق في تصريحات له يوم 12 فبراير 2014 أن مصر تمتلك سيناريوهات محددة بتوقيتات موضوعة بمنتهي الدقة بعد أن استنفدت كل محاولات التفاوض والحوار مع الجانب الإثيوبي، خاصة أن بناء السد بهذا الشكل والحجم يمكن أن يدمر إرثًا حضاريًا ملكًا للإنسانية كلها لا لشعب مصر فقط. وأوضح الوزير أن المشكلة ليست مجرد نقص مياه لكنها مشكلة تتعلق بصدق النوايا وتنفيذ ما يحقق التنمية في الشعوب المتشاطئة دون الاضرار بالآخر، ومشددًا على أن ما قامت به تركيا من تعطيش لسوريا والعراق لن يتكرر في مصر، جاء ذلك تعليقًا على التوجه التركي نحو إثيوبيا لنقل خبراتها في بناء سد أتاتورك لحساب أديس أبابا.. ودعا وزير الري رئيس الحكومة الإثيوبية ومسئوليها إلى وضع تصريحاتهم التي تؤكد عدم نية بلادهم الاضرار بمصر موضع التنفيذ وتسجيلها على ورق رسمي يتم توقيعه من قبل البلدين والبدء فورا في مناقشات فنية تدعمها الارادة السياسية لتحقيق الوفاق والتكامل بين الشعبين.. وشدد على اننا لسنا دعاة مشاكل أو خلافات مع شعوب شقيقة تربطنا بها علاقات تاريخية وأزلية متميزة وأضاف: لسنا بهذه السذاجة لنواصل الحوار والمباحثات إلى ما لا نهاية لنري السد وقد تم بناؤه وافتتاحه وتشغيله. يأتى ذلك في ضوء البيانات الرسمية التي أصدرتها الدول الكبري والكيانات العالمية والمؤسسات المالية المانحة ومنظمات المجتمع المدني لاظهار المراوغة الإثيوبية التي تهدف لعدم حل أزمة السد. ويعد النيل الأزرق الذي يقام سد النهضة عليه هو أهم رافد لنهر النيل، وهو المصدر الرئيسى لحصة مصر من مياه النيل ومصر لديها اتفاقات تضمن تلك الحقوق. وكانت بريطانيا التي بدأ احتلالها لمصر عام 1882، قد وقعت في 15 أبريل عام 1891، بروتوكولا مع إيطاليا التي كانت تحتل إريتريا، تعهدت فيه إيطاليا بعدم إقامة أية منشآت لأغراض الرى على نهر عطبرة (إيراده المائى 13 مليار متر مكعب سنويًا، يصل منها لأسوان نحو 11.5 مليار مترمكعب)، يمكن أن تؤثر على تدفق المياه منه إلى نهر النيل. وفى 15 مايو عام 1902، وقعت بريطانيا اتفاقية مع إثيوبيا تعهد فيها منليك الثانى ملك إثيوبيا بألا يقوم بإنشاء أو يسمح بإنشاء أعمال على النيل الأزرق أو بحيرة تانا أو نهر السوباط من شأنها الحد من تدفق المياه منها إلى مصر والسودان إلا بعد الرجوع والاتفاق مع حكومتى بريطانيا ومصر. وفى ديسمبر عام 1906، وقعت بريطانيا وفرنسا وإيطاليا اتفاقا في لندن بشأن الحبشة (إثيوبيا)، تضمن في البند الرابع منه، موافقة الدول الثلاث على العمل معا لتأمين مصالح بريطانيا العظمى، ومصر في حوض النيل، وعلى الأخص تأمين وصول مياه النيل الأزرق وروافده إلى مصر. وفى 7 مايو عام 1929، وافق المندوب السامى البريطانى على المذكرة التي أرسلها رئيس وزراء مصر محمد محمود باشا بشأن مياه النيل، وبذلك أصبحت اتفاقية مياه النيل سارية منذ ذلك التاريخ، علما بأن موافقة وتوقيع الجانب البريطانى على تلك الاتفاقية كان نيابة عن الإدارات الحكومية البريطانية القائمة في كل من السودان وأوغندا وكينيا وتنجانيقا (اتحدت تنجانيقا مع جزيرة زنجبار وكونتا اتحاد تنزانيا الحالي). وأهم ما تنص عليه اتفاقية عام 1929 هو تحديد حق مصر المكتسب من مياه النيل أي حصتها السنوية بمقدار 48 مليار متر مكعب، كما أكدت الاتفاقية أن لمصر نصيبا في كل زيادة تطرأ مستقبلا على موارد النهر في حالة القيام بمشروعات جديدة فوق النيل أو روافده الاستوائية أو الإثيوبية. وطبقا لقاعدة "الاستخلاف" في العلاقات الدولية، فإن مصر ورثت تلك الاتفاقيات من دولة الاحتلال (بريطانيا) بعد إزاحة احتلالها البغيض لمصر، ومن بينها الاتفاقيات الخاصة بضمان تدفق الروافد الإثيوبية لنهر النيل إلى السودان ومصر، دون أي انتقاص من إيراداتها المائية. وكانت مصر قد أضافت لحصتها نحو 7، 5 مليار متر مكعب لتصبح 55، 5 مليار متر مكعب بعد بناء السد العالي، وإنقاذ مياه الفيضان التي كانت تتبدد في البحر، بينما حصل السودان على 11، 5 مليار متر مكعب من ذلك المشروع، الذي تكفلت مصر وحدها بكل تكاليفه، بما في ذلك التعويضات التي قُدمت لأهل النوبة. وكانت إثيوبيا قد أثارت قضية بناء السدود على النيل الأزرق وروافده منذ ستينيات القرن الماضى بدعم من الغرب، في إطار الضغط الأمريكى والغربى على مصر في عهد الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، الذي تمكن من تفادى ذلك بفضل دور مصر ومكانتها الأفريقية والدولية في عهده ولم تبدأ إثيوبيا في تحويل مشروعات السدود على النيل الأزرق وروافده إلى واقع إلا في عام 1996 عندما طلبت التمويل الدولى لشبكة من السدود على روافد النيل التي تنبع من الهضبة الإثيوبية وعلى رأسها النيل الأزرق الذي يعد القلب المائى لنهر النيل ولإيراداته في مصر والسودان. وإثيوبيا، التي تضم أهم منابع النيل، هي دولة داخلية لا تملك حدودا بحرية، وهى نقطة ضعف جغرافية خطيرة لأى دولة، واسمها التاريخى هو "الحبشة" ومعناها الخليط نتيجة وجود عدد كبير من القبائل والأعراق فيها. وعدد سكانها 90 مليون نسمة، وناتجها المحلى الإجمالى نحو 40 مليار دولار، أي أقل من سبع نظيره في مصر، ونحو 78% من سكانها تحت خط الفقر، لكنها تحقق أعلى معدل للنمو الاقتصادى في أفريقيا بمتوسط بلغ نحو 9% سنويا في السنوات العشر الأخيرة بمساندة كبيرة من الصين، بما يدفعها سريعا نحو تحسين أوضاعها الاقتصادية. وينبغى الإقرار بأن المنطقة التي يقام فيها السد عبارة عن هضبة شديدة الوعورة وغير ملائمة لإقامة مشروعات زراعية إلا في مساحات محدودة، بما يرجح أن يتركز دور هذا السد الكبير على توليد الطاقة التي تحتاجها إثيوبيا، لكن فترة ملء خزان السد ستقتطع جزءًا مهمًا من مياه النيل الأزرق التي تتدفق إلى مصر والسودان، وهى فترة الأزمة التي ستوقع أضرارًا جسيمة بمصر لا يمكن احتمالها، وتفرض ضرورة مراجعة حجم خزان السد، وفترة ملئه. وقد أعرب البطريرك متياس الأول عن تقديره لاستقبال الرئيس عبد الفتاح السيسى له وللوفد المرافق، مشيرًا إلى عمق ومتانة العلاقات التاريخية التي تربط بين البلدين، والتي تمتد إلى الجانب الروحي والديني، مؤكدًا أن هذه العلاقات سوف تظل إلى الأبد، ولا سيما في وجود نهر النيل العظيم الذي يمثل ثروة منحها الله للبلدين حتى يستغلاه معًا، داعيًا إلى استمرار علاقات المودة والوئام بين البلدين حتى يحل الخير والسلام على الشعبين. وأوضح الرئيس السيسى، خلال اللقاء، أن مصر لا يمكن أن تقف في وجه حق الشعب الإثيوبي في التنمية، مضيفًا أن نهر النيل، وإن كان يمثل للإثيوبيين مصدرا للتنمية، فإنه بالنسبة للمصريين مصدر للحياة وليس فقط للتنمية، في ضوء اعتماد مصر عليه كمصدر رئيسي لتلبية احتياجات شعبها من المياه. وشدد على أهمية اتخاذ إجراءات عملية تحيل التوافقات السياسية إلى مرجعية قانونية تحفظ حقوق البلدين، وتهدف لتأمين مصالحهما وتعزيز التعاون المشترك فيما بينهما. وذكر السيسي أن مصر تبدأ حقبة جديدة للانفتاح على إفريقيا، ولا سيما مع إثيوبيا، مشيرًا إلى الفرص الواعدة للتنمية وتنشيط التبادل التجاري بين البلدين.. وذكر السفير يوسف أن البابا تواضروس الثاني تحدث خلال اللقاء عن العلاقات التاريخية الممتدة والوثيقة التي تجمع بين الكنيستين المصرية والإثيوبية، والتي ترجع إلى القرن الرابع الميلادي واتسمت دومًا بالمحبة والتعاون.