نصف الكوب المليان في المسألة ان موريتانيا اعترفت بانتشار الفساد في البلاد وان اهم اسبابه هو تدني الرواتب اما النصف الفارغ في التصرف الموريتاني فيتعلق بقصر الزياة الضخمة في الرواتب علي الوزراء فقط دون غيرهم من الموظفين هذا هو المختصر المفيد في تفسير قرار الرئيس الموريتاني الاسبوع الماضي بزيادة رواتب الوزراء سبعة اضعاف مبررا هذه الزيادة بانها تستهدف مكافحة الفساد في البلاد بعد ثبوت تورط بعض الوزراء في قضايا رشوة وغيرها بسبب ضعف دخولهم. الفساد ظاهرة عالمية ولكنه في البلاد النامية له طابعه الخاص الذي يتشكل من ظروف هذه البلاد وأسباب الجرائم ضد المال العام كثيرة غير انه في الدول النامية يأتي ضعف الاجور في مقدمة الاسباب التي تدعو الموظفين لانتهاك القواعد الادارية والاخلاقية بغية تحقيق التربح من الوظائف التي يشغلونها ومحاولات الدول النامية في مقاومة انتشار الفساد في قواعدها الاقتصادية قديمة ودائما ما تدور في حلقة مفرغة اشبه بلعبة القط والفأر حيث كلما استنت الدولة قانونا او رادعا اداريا لابعاد الموظفين عن ممارسة رذيلة الرشوة والتربح وغيرها من الرذائل المعروفة ابتكر كيان الفساد الوحشي وسائل وحيلا لمنع هذه القوانين والنظم من تفعيل وجودها وادائها فيظل الفساد علي حاله ويزداد انتشارا واستشراء رغم كل النوايا الطيبة لدي المسئولين في مكافحته واصرارهم علي ردعه يوما بعد يوم والعراقيل علي طريق مواجهة الفساد عديدة غير ان اهمها علي الاطلاق هو خشية الادارة من الاعتراف به علي الاقل بصورة علنية وهذا ما تجاوزته موريتانيا في خطوتها الاخيرة غير ان الاعتراف وحده برغم اهميته لن يكفي ولابد بعد ذلك من ابتكار آليات جديدة وعملية لمواجهته.. آليات تساوي في فاعليتها تلك الآليات المتطورة التي أوجدها الفساد المترسخ والمستقر في اقتصاديات الدول النامية ربما بلا استثناء وفي بلادنا يتلاعب المفسدون بالمال العام استنادا الي الخلل الواضح في هيكل الاجور والاسعار وهي مشكلة حقيقية وخطيرة وللإنصاف هي فوق قدرة الحكومة علي حلها في الاجل القصير فتحسين احوال الموظفين يعني ببساطة زيادة الانفاق الحكومي ولما كانت الميزانيات متعبة وفقيرة وتعاني من قصور حاد في الموارد فان اية زيادة في الاجور ستعني تلقائيا تضخم عجز الميزانية وما يستتبعه من ضغوط تضخمية علي العملة تأكل فوائد أية زيادة في الاجور ومع ذلك فان قصر الزيادة في الاجور علي الوزراء فقط دون غيرهم لن يحل شيئا في جهود مقاومة الفساد وقد اصبح معروفا ان الموظفين -بشرائحهم المختلفة- لديهم الكثير مما يفعلونه لافساد اية خطط او قرارات فوقية طموحة ما لم ينالوا حظهم من العطايا التي يتعين علي صاحب او اصحاب المصالح دفعها لانهاء مصالحهم وهذه العطايا في النهاية يقوم مقدموها بتحميلها علي الآخرين وهكذا تدور العجلة الجهنمية وتتضخم ويدفع الجميع ثمنها بلا استثناء وفي محاولات مقاومة الفساد جري اعتماد التحسين الانتقائي لقطاعات معينة من الموظفين دون غيرهم علي اعتبار ان فساد هؤلاء ابلغ ضررا من فساد غيرهم وقد رأينا مثلا ان هناك زيادات معتبرة طرأت علي دخول الموظفين في الجهاز القضائي او الضريبي او المتعاملين مع المستثمرين غير ان هذه المحاولات لم تجد نفعا ذا بال كون ان قطاعات عديدة لم ينالها الحظ في تحسين الاحوال فمارست ألعابها الشيطانية حتي تنال ما اصبحت تراه حقا لها يعينها علي مواجهة نفقات المعيشة ثم تحولت بعد ذلك الي هواية في جمع المال الحرام حتي وان فاق بكثير الاحتياجات المعقولة للموظفين. ان قضية الفساد والموظفين والجهاز الاداري تعد الآن اهم التحديات التي تعوق او تحد من التنمية في الدول النامية ومع تكرار فشل الحلول التي جري اتباعها هنا وهناك عبر عقود من الزمان فان الامر يحتاج الآن الي مواجهة حاسمة وخلاقة تبدأ أولا بالاعتراف الصريح بالظاهرة وآثارها ثم بعد ذلك الدخول مباشرة في جوهر الازمة الذي تتعلق بالخلل بين الاجور والاسعار وقد يستدعي الحل اجراءات مؤلمة وغير شعبية قد يكون من بينها زيادة نوعية في الضرائب او تقليص مؤلم في حجم الجهاز الاداري للدولة والاستغناء عن عشرات الالاف من الموظفين لا لزوم لهم وقد يصل البحث في الحلول الي تقنين الرشوة او العطية علي ما اقترح يوما ما الدكتور عبد العزيز حجازي في السبعينيات اما الزيادات الانتقائية لشرائح او قطاعات من الموظفين فالارجح انها لن تجدي نفعا وفقا لما مررنا به من تجارب ومحاولات.