شيء محير يستعصي علي الحل ويتدلل!.. منذ صدور قانون المخابرات الأمريكي، ديسمبر العام الماضي.. والرئيس جورج بوش يبحث ويدقق عمن يقبل منصب المدير العام لأجهزة المخابرات، الذي يقود بقبضته وفكره الأمني 15 جهازاً تؤمن الداخل والخارج، بميزانية سخية: 40 مليار دولار.. الكل اعتذر عن عدم قبول المنصب شديد الحروجة والمقامرة، المعرض للصدام والتنازع مع السلطات العليا للدولة.. فقط الأسبوع الماضي، قبل جون نيجرو بونتي سفير أمريكا في العراق المنصب، ليصبح قيصر دولة المخابرات الأمريكية ومديرها العام! والسفير نيجرو بونتي مشهود له بالكفاءة والحنكة في أعمال المخابرات، والقدرة علي فرز المعقول عن اللامعقول، والمعلومات الصحيحة عن المعلومات المسيسة! خدم مبكراً في فيتنام كمحلل للمعلومات، ورأي كيف تقود التقويمات الخاطئة "erroneous assessments" لقدرات العدو إلي كوارث وهزائم ساحقة.. وقبل العراق كان سفيراً لأمريكا لدي الأممالمتحدة.. قضي 8 أشهر فقط في بغداد، يحاول الحفاظ علي قوام الغزو الأمريكي رغم انهيار ذريعته الأساسية أسلحة الدمار الشامل التي نبتت من جذور معلومات مخابرات مفبركة وغير صحيحة! في قاعة المؤتمرات الصحفية بالبيت الأبيض، وقف بوش قبل أيام يقول للصحفيين مبرراً اختياره لنجرو بونتي: ".. سوف يدير أجهزة الأمن والتخابر ال 15 كمشروع موحد".. تعدد الأجهزة، وعلاقاتها التنافسية والتكاملية، هي التي أدت إلي صواعق مانهاتن وسقوط ذرائع غزو العراق المسيسة! خلال 8 أشهر فقط ببغداد، استطاع السفير نيجرو بونتي أن يضخ في عروق الاحتلال الأمريكي للعراق جرعة من الواقعية ومواجهة الحقائق، وإعادة تشكيل جهاز المخابرات العسكرية رغم عدم خضوعه لسلطاته كسفير..! السفير ريتشارد هيلبروك رفيق غرفة مسكنه في سايجون بفيتنام، وسلفه في منصب السفير بالأممالمتحدة، يتنبأ لنجرو بونتي في منصبه الجديد أن يكون قوة تثبيت وترسيخ "Stabilizing Force"، تعمل في هدوء، ولا تعترض تدفق السلطة! بينما يصفه الذين تعاونوا معه في العراق بأنه: "يقاتل بضراوة لتغيير السياسات، لكنه لا يخرج بمعاركه علناً إلي الملأ"! السفير المدير أنفق الأشهر الأخيرة له في بغداد، يلاطف السنة والشيعة والأكراد ويدفعهم إلي حل خلافاتهم وطموحاتهم المتلاطمة.. أحد أصدقائه القدامي يعلق: "سوف يكون عليه أن يفعل نفس الشيء مع دونالد رامسفيلد وديك تشيني وعتاة جهاز ال "CIA".. وغيرهم ممن يتيقن ألا طريق إليهم.. إلا طريقهم"! البطش بحرمة الإنسان! يبقي أن يقف نيجرو بونتي أمام لجنة مجلس الشيوخ، التي قد تصدق علي تعيينه للمنصب، أو لا تصدق! والرجل ليس فوق مستوي الشك.. للتصديق علي تعيينه سفيراً في العراق، عصروه.. سألوه عن خبايا أدائه لوظيفته كسفير في هندوراس، أثناء الثمانينيات.. تلك الأيام فاحت رائحة تغاضي السفارة، ومحطة المخابرات "CIA"، عن ممارسات تعذيب تمت بعلمهم وتحت أبصارهم..! مثل هذه الممارسات قد تطفو مرة أخري في مجلس الشيوخ، وتحرك جمر فضائح سجن أبو غريب وغيره في العراق.. كذلك يتوقعون أن يتعرض السفير المدير لتدقيق شديد حول موضوعات شائكة: مدي فهمه واحترامه لحقوق الإنسان، والتزامه بتطبيق كلمة القانون، وقواعد الانصاف.. قبل أن تغريه حاكمية منصبه المطلقة باستباحة حرية الإنسان والبطش بحرمته.. أياً كان! إنما المتوقع ألا تخرج مثل هذه المخاوف ترشيح نيجرو بونتي عن قضبان التصديق عليه في مجلس الشيوخ.. سبق أن عبر هذا الامتحان بأغلبية ملحوظة مرتين في السنوات ال 4 الأخيرة، وهذا رهان النيويورك تايمز وعلي مسئوليتها! ... يتجسم عيب أجهزة التخابر الأمريكية في أن كلاً منها جزيرة معزولة، لا تتعاون مع جهاز آخر ولا تتبادل المعلومات، إنها جميعاً في حالة تنافس، لا تكامل! يضيء، لنا جوانب هذا العيب الكارثة كل من جيفري سميث وجون ديوتش، المديران السابقان لجهاز المخابرات المركزية الأمريكية "CIA".. في مقال ضاف لهما بمجلة فورين بوليسي بعنوان: مخابرات أكثر ذكاء "Smarter Intelignce" أقتصد لك منه سطوراً تبين وتوضح.. ..: يركز منفذو القانون عادة علي جمع الأدلة بعد وقوع الجريمة بهدف دعم الاتهام أمام القضاء، والجاري أن مكتب التحقيقات الفيدرالي "FBI" يمتنع تماماً عن اقتسام معلوماته المستقاة من مصادره مع ال "CIA" وغيرها من أجهزة التخابر الحكومي، خشية أن تؤخذ عليه وعلي مصادره في تحرك قضائي في المستقبل..! وعلي الجانب الآخر فإن جهاز ال "CIA" يجمع ويحلل معلوماته لكي ينذر الحكومة بالحدث قبل حدوثه.. ويضن الجهاز عن اقتسام معلوماته مع ال "FBI" وغيره من أجهزة التخابر الحكومية، خشية أن تنكشف شخوص مصادرها ومنهج تخابرها، في نزاع معلن محتمل! ... لهذا تعيش جميع أجهزة التخابر الأمريكية في حالة امتناع وخصام ولوذ بالسرية التامة..! شر البلية.. ما يضحك! لكل هذا كان لابد من احتفاظ حائط السرية تماماً بين جميع الأجهزة السرية.. وتحقيق ميزان دقيق بين ضرورات الأمن القومي، وغايات تنفيذ القانون، وهذا هو بالضبط ما فعله قانون المخابرات الأمريكي الجديد، ليجنب بلاد العم سام أحداثاً إرهابية كارثية تكمن له وتتربص..! إنما شر البلية ما يضحك.. فقد جاء هذا التغيير الأمني الدرامي في أعقاب صواعق مانهاتن.. مثلما جاءت إعادة تنظيم الجهاز الأمني الذي أدي إلي ميلاد جهاز المخابرات المركزية الأمريكية سنة ،1947 إثر حادث كارثي أكثر ترويعاً: مقتلة بيرل هاربر البحرية..! في مذكراته كتب الرئيس هاري ترومان: "كثيراً ما راودني التفكير في أنه لو أن الحكومة الأمريكية كانت تأخذ فيما بينها بشيء من تنسيق المعلومات، لكان من الصعب إن لم يكن مستحيلاً علي اليابانيين أن يحققوا هجوم الأفعي.. في بيرل هاربر"! في العام ،1952 شكا الرئيس هاري ترومان لكبار موظفي ال "CIA" من أنهم يقيمون حائطاً حاجزاً للمعلومات يغبها عن بقية أجهزة التخابر الأخري.. أجابوه: "نحن الجهاز المركزي للتخابر.. هو اسمنا والسرية صميم علمنا"! وفي العام ،1999 شكلت لجنة هارت رودمان، لإعادة النظر في قانون 1947 المنشئ لجهاز ال "CIA".. وانتهت اللجنة إلي تقرير جاذب العنوان: "عالم جديد يجيء" الأمن القومي الأمريكي في القرن ال 21".. لكنه لم يضع أفكاراً جديدة تحارب مركزية العمل المخابراتي، والاستئثارية محفوظاً ومحنطاً في أجهزة الكمبيوتر المحمية ب "حوائط النيران"! .. وبقي الحال علي ما هو عليه من قصور عاجز ومغيب، حتي داهمت الجميع: صواعق سبتمبر!