طوال العقود الماضية والتي شملت أكثر من نصف القرن الماضي كانت الجامعات ومراكز الأبحاث والدراسات الأمريكية تمضي وفق خطة استراتيجية مرسومة للاستحواذ علي أفضل الكفاءات العلمية العالمية في جامعات القارات الخمسة، خاصة من يلتحقون بدراسة الماجستير والدكتوراه. وكانت الجامعات الأمريكية تركز علي تخصصات معينة تعمل علي جذبها، أما وسائل الاستحواذ فقد تعددت وتفاوتت بين الإغراءات المادية الكبيرة أو حتي التوريط في بعض المشكلات الجنسية والأخلاقية خاصة مع الدارسين من دول العالم الثالث. وتعتبر سرقة العقول البشرية من أهم وسائل استنزاف دول الجنوب الفقير، وقد نوقش الموضوع كثيراً في المنتديات العالمية، سواء في الأممالمتحدة أم في منتديات أهل الجنوب المجني عليهم، واعتبرت سرقة العقول البشرية خاصة من دول العالم الثالث والنامي أخطر جرائم السرقة والاستنزاف علي الاطلاق، ويقدر العائد منها بالنسبة للدول الجاذبة بعشرات المليارات من الدولارات سنوياً. وتعتبر مصر والهند والصين وعدد من بلدان أمريكا اللاتينية من أكثر الدول التي تعاني من سرقة العقول البشرية حيث تمتلئ الجامعات الأمريكية بشكل خاص بخبرات فنية نادرة ومتخصصة في مجالات حيوية من تلك البلدان، وقد ساعد علي ذلك في الماضي ولاشك الظروف والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية المتردية في بلدان العالم الثالث، كذلك الحروب والصراعات الحدودية والدينية والقبلية التي تسود كثيراً من بلدان العالم الثالث. وعندما تهدم سور برلين وتفكك الاتحاد السوفيتي ومعه معسكر شرق أوروبا الاشتراكي استحوذت الولاياتالمتحدة علي نصيب الأسد من العلماء الروس المهاجرين خاصة في مجالات الصواريخ والذرة والأقمار الصناعية والهندسة الوراثية، هؤلاء العلماء الذين كانوا يمثلون صفوة الخبرة السوفيتية في هذه المجالات. وقد ساعدت الظروف السيئة التي سادت روسيا وبلدان شرق أوروبا طوال عقد التسعينيات من القرن الماضي علي هجرتهم والبحث عن مرافئ جديدة آمنة، وكانت أجهزة المخابرات الغربيةوالأمريكية بشكل خاص علي وعي وإدراك بطبيعة هذه الخبرات الخاصة المتميزة وقامت بدور كبير في تسهيل انتقالهم للعمل في الجامعات ومراكز الأبحاث الأمريكية ويقدر هؤلاء العلماء ما بين 50 و80 ألفاً، ذهبت الغالبية الغالبة منهم إلي الولاياتالمتحدة وأوروبا وإسرائيل. وتقول النيويورك تايمز الأمريكية في دراسة أخيرة لها إن الجامعات الأمريكية والتي ظلت علي مدي نصف قرن تستقطب أفضل وأذكي وأقدر الدارسين المتخصصين من جميع انحاء العالم تواجه الآن منافسة قوية من جانب دول أخري كثيرة بدأت تنافس الجامعات الأمريكية خاصة في أوروبا والصين. ويذهب التقرير الذي نشرته كثير من الصحف الأمريكية إلي أن الجامعات الصينية بدأت مرحلة مهمة لتطوير حوالي 100 جامعة وتحويلها إلي جامعات للدراسات التخصصية بالدرجة الأولي، وأن هذه الجامعات الصينية لديها خطة دقيقة لكي تلعب دوراً نشطاً في استقطاب العلماء المتخصصين من جميع انحاء العالم. وهذا الاتجاه الصيني بدأ يمثل ازعاجاً شديداً للأوساط العلمية الأمريكية، ليس فقط الطموح الصيني المشروع في مجال الدراسات العلمية المتخصصة باعتبارها قد أصبحت دولة كبري كماً وكيفاً، ولكن أيضاً لأن الكثير من الخبرات الأمريكية المتخصصة في مجالات حيوية هم من أصل صيني، وتعد الجالية الصينية في أمريكا من أكبر الجاليات وأكثرها ازدهاراً في المجتمع الأمريكي. كما بدأت الجامعات الأوروبية خاصة الألمانية في المنافسة في هذه المجالات واستقطاب الدارسين المتخصصين من ذوي الكفاءات العالية من جميع انحاء العالم. وتقول الدراسات في هذا المجال إنه كان هناك سنة 2002 حوالي 586 ألف دارس أجنبي في الجامعات الأمريكية مقارنة ب 270 ألفاً في الجامعات البريطانية، و227 ألفاً في الجامعات الألمانية، وفي السنوات اللاحقة زاد عدد الدارسين الأجانب في كل من بريطانيا وألمانيا بنسب تتراوح بين 10 و15%. وتقول نفس الدراسات إن أكثر البلدان المصدرة للدارسين كانت في دول شرق آسيا "الصين وكوريا" والهند وبعض دول الشرق الأوسط والشمال الإفريقي، وأن حركة هجرة العقول البشرية، تقدر حالياً بحوالي 2 مليون دارس، ويؤكد البروفسور منسنت لانسرين الخبير في منظمة التعاون الاقتصادي الدولي التي تضم 30 دولة صناعية في باريس، ان الولاياتالمتحدة، ومعها عدد من البلدان الصناعية، كانت تستحوذ علي نصيب الأسد من تلك العملة الصعبة "العقول البشرية".