قديما كانت لافتة "البيع بسعر المصنع" كفيلة بدفع العديد من المستهلكين للاقبال علي سلعة أو منتج معين، ولكن علي ما يبدو أن مثل هذه اللافتات قد فقدت تأثيرها، في ظل فيضان السلع الصينية الرخيصة والمغرقة التي اجتاحت السوق المصري في السنوات الأخيرة ومن ثم أصبحت لافتة "البيع بسعر الصين" هي الضمان الأكبر وربما الوحيد للترويج للمنتج واقناع المواطن بشرائه، فضلا عن تحقيق بعض المستوردين لمكاسب خيالية بأقل تكلفة ممكنة، الأمر الذي بات يهدد مستقبل قائمة طويلة من الصناعات والحرف المصرية.. المنتجات الصينية المغرقة أضرت بصناعات الملابس الجاهزة، وكذلك صناعات الأدوات الكهربائية والأثاث والموبيليا والصناعات الجلدية حتي صناعة السيارات لم تسلم من منافسة المنتجات الصينية كما ضربت هذه السلع الحرف اليدوية كحرفة تصنيع النجف وفوانيس رمضان والخردوات والسبح ومهنة تصنيع الشنط المدرسية حتي صناعة التماثيل والانتيكات المقلدة. خبراء الاقتصاد يرون أن استمرار اغراق السوق المصري بسلع صينية رخيصة الثمن سيؤدي إلي تسريح العمالة في الصناعة والمهن المحلية وزيادة معدلات البطالة، وتراجع حجم الانتاج القومي والتأثير السلبي في ميزان المدفوعات وانخفاض قيمة الجنيه المصري لزيادة الواردات عن المصادرات مما يتطلب خطة لمواجهة غزو البضائع الصينية للسوق المصري. والمثير في الأمر أنه من أصل 28 قضية رفعتها مصر علي عدد من الدول والبلدان الاجنبية وتم فيها فرض رسوم مكافحة اغراق يبلغ نصيب الصين منها 15 قضية. الثابت أن الصينيين بدأوا خطتهم في الهجوم علي السوق المصري واغراقه بالبضائع علي حساب الصناعات والحرف المحلية ودون مراعاة لاشتراطات المنافسة العادلة في نهاية التسعينيات من القرن الماضي عندما كانوا يتسترون في السياحة لدخول مصر وبيع منتجاتهم في القاهرة فقط، حيث يأتون في مجموعات سياحية وبصحبة كل منهم عدة حقائب مليئة بالملابس والمفروشات ولعب الأطفال والساعات والأقلام وبعض الأجهزة الكهربائية لبيعها بمساعدة الطلبة الصينيين الذين يدرسون في جامعة الأزهر. بل ان بعض هؤلاء الطلبة مارسوا تجارة الشنطة عند قدومهم للدراسة كل عام وبمرور الوقت شرعوا في محاولات للحصول علي أوراق قانونية للاقامة الدائمة في مصر بالحصول علي فرص عمل مؤقتة في أحد المصانع التي يمتلكها صينيون في مدن السادس من أكتوبر أو العاشر من رمضان أو بورسعيد، وفي خلال سنوات قليلة أصبح وجود البائعين الصينيين في الشوارع والميادين العامة ظاهرة خصوصا في منطقة وسط البلد عاديا لدرجة انه أصبح لكل مجموعة منهم بعض الزبائن الذين يترددون عليهم لشراء ما يحتاجونه من سلع ومنتجات صينية دون أن يكون بينهم لغة مشتركة، ونجح هؤلاء الصينيون في التعامل مع المصريين من خلال الاشارات والكتابة علي الآلة الحاسبة عند تحديد السعر. والغريب أن هذه المجموعات استطاعت التوغل في وجدان المستهلك المصري في ظل غياب آليات الرقابة الفاعلة من الجهات المسئولة عن متابعة الأجانب فضلا عن عدم انتباه المسئولين عن الصناعة المصرية من خطورة إغراق السوق المصري بالبضائع الصينية رخيصة الثمن وقليلة الجودة خاصة أن القدرات الاقتصادية الصعبة للمواطنين تضطرهم للإقبال علي المنتجات الصينية، ووصل الأمر إلي استقرار الكثير من البائعين والبائعات الصينيات في بعض المناطق بالعاصمة في شكل مجموعات داخل شقق في مدينة نصر والمطرية وعين شمس وحدائق شبرا والعباسية والمعادي الجديدة، ليقيم كل ثلاثين منهم في شقة بحيث يعملون بنظام الورديات فلا يلتقي معظم الأشخاص إلا يوم الاجازة لأنهم تبنوا أسلوب "الدلالات" في توصيل بضاعتهم إلي المنازل وأماكن العمل للمواطنين، وحتي تكتمل سيطرة المنتجات الصينية ظهرت فيها بعد المعارض الصينية التي انتشرت في كل المحافظات والمدن المصرية. أما قطاع المنسوجات فهو من أكثر القطاعات تضررا بفيضان البضائع الصينية المغرقة، ومن ثم اتفق المسئولون في غرفة الصناعات النسيجية وشعبها المختلفة علي ضرورة اتخاذ بعض الاجراءات الحمائية ضد الاغراق والتهريب لتشجيع الصناع المحليين علي الاستمرار في الإنتاج، وأيضا ينبغي خفض سعر صرف الجنيه لرفع القدر التنافسية للسلع المصرية في الأسواق الخارجية، وضرورة تنظيم السوق الداخلية والقضاء علي عشوائية الأسواق التجارية بإلزام التجار بالبيع بالفواتير لمعرفة أي المنتجات الأجنبية المهربة أو المغرقة، أو غير المطابقة للمواصفات وإلزام المستوردين سواء من الصين أو من غيرها بتوفير شهادات تؤكد أن البضائع مطابقة للمواصفات، وخالية من أية أضرار صحية أو فنية، أوبيئية، وتطبيق النظام التركي الذي يشترط أن تكون أسعار السلع المستوردة تتناسب مع معدل الأسعار العالمية لمنع التلاعب واغراق السوق المحلي بمنتجات رخيصة علي حساب المنتج الوطني، وتطبيق ضريبة المبيعات بدون حد أدني علي جميع التجار، وعمل حملات دورية علي الأسواق للتأكد من أن السلع الواردة محليا سددت الضرائب والجمارك المستحقة عليها، وتتبع دخول السلع المستوردة في جميع المنافذ الجمركية لتحصيل المبالغ المستحقة عليها. ويقول الدكتور صلاح الدين فهمي رئيس قسم الاقتصاد بتجارة الأزهر إن الغزو الصيني للسوق المصري وإغراقه لم يترك أي مجال ما عدا القطاعات الغذائية، و الواردات المصرية من الصين في تصاعد مستمر، والبضائع الصينية تتجاوز الآن 20% من حجم السوق في جميع القطاعات، ويتوقع زيادتها مستقبلا مع الصعوبات الكبيرة في تقديم نماذج شكوي الاغراق، وقد درسوا السوق المصري واحتياجاته من خلال خبراء ومحللين يأتون لرصد ذلك علي الطبيعة قبل التصنيع، فهم يعرفون الأذواق والتصميمات والمقاسات المناسبة ونوعية السلع في كل دولة علي غرار إنشاء خطوط في مصانع السجاد لإنتاج "سجادة الصلاة" نظرا لزيادة معدلات بيعها في الدول الإسلامية مع مراعاة أن تكون الأسعار في متناول الجميع وأقل من أسعار السلع المنافسة سواء للمنتجات المحلية أو المستوردة، أي أنها تقصد ممارسة الاغراق عن عمد، ويكفي أن "الدلالات" الصينيات يجبن الشوارع المصرية ومعارضهن وصلت إلي جميع المحافظات حتي في الساحل الشمالي. أما الدكتور شريف دلاور الخبير الاقتصادي فيري أن فتح السوق أمام البضائع الصينية أدي لامتلائها بالسلع والمنتجات المغشوشة والمغرقة، حيث إن المستوردين يتعاقدون مع المصانع والشركات الصينية علي توريد أسوأ المنتجات من الدرجة الثالثة للسوق المصري أو يشترون من مصانع بئر السلع الصينية بهدف تحقيق أرباح خيالية، وساعد علي دخول هذه المنتجات عدم وجود نظام قوي لتطبيق المواصفات القياسية في الموانئ والمطارات لمنع الأنواع الرديئة، وينطبق ذلك علي الواردات من الدول الأخري فهناك تساهل من الأجهزة المعنية بالتفتيش علي الواردات، إلي جانب صعوبة تحقيق شكوي الاغراق حتي أن الصناعات والحرف المحلية أصابها الضرر والتراجع نظرا لاستيراد آلات ومعدات فاسدة، والمستوردون يلعبون علي جزئية انخفاض القدرة الشرائية للمواطنين مما يدفعهم للاقبال الاضطراري علي السلع الصينية سيئة الجودة. ويري دلاور أنه لمواجهة غزو المنتجات الصينية واندفاع المستوردين إلي اغراق الأسواق المحلية لابد من تسهيل إجراء الشكوي، وتبسيط العلاقات بين سلطات التحقيق والمشتكين المحليين في تحقيقات مكافحة الاغراق، مع تبني خطة تتمثل في منع المستوردين من تجديد بطاقتهم الاستيرادية سنويا دون أن يكون حقق نسبة تصدير تتراوح من 10% إلي 20% مبدئيا من المنتجات المصرية بحيث يتم تشجيع الصناعة المحلية ومساعدتها علي تطوير خاصة أن هؤلاء المستوردين يجربون الأسواق العالمية ويعرفون احتياجاتهم من السلع مما يحسن الميزان التجاري بدلا من تشجيع صناعات الدول الأخري علي حساب الصناعة المحلية.