غريب أن يظن الحاكم دوما أنه باق للأبد، والأغرب أن يظن أنه سيكون بمنأي عن المساءلة والمحاسبة والعقاب، فالأيام دول ودوام الحال من المحال والنموذج ينطبق علي مبارك رئيس مصر السابق، لم تحصنه العقود الثلاثة التي أمضاها في حكم مصر من المحاسبة فظهر في الثالث من أغسطس الحالي كسيرا ذليلا، جاء "مبارك" يومها مسجي علي نقالة وكأنه فرعون مصر المعروض في المتحف المصري، جاء ليقبع في قفص الاتهام. يوم الثالث من أغسطس سنة 2011 كان شاهدا علي حدث ضخم وفارق في تاريخ الأمة.. علامة بارزة في مفترق الطرق.. سابقة فريدة لمحاكمة رئيس سابق والتي ستكون بالقطع رادعا لأي رئيس قادم، المفارقة أن تتم المحاكمة في أكاديمية الشرطة وفي القاعة نفسها التي شهدت احتفال أعياد الشرطة في 23 يناير الماضي يوم أن وقف "مبارك" متوجا كرئيس وسط حملة المباخر والموالين، وسرعان ما تغيرت الأحوال بعد عدة أشهر ليأتي مبارك مسجي علي سرير متحرك ليمثل في قفص الاتهام، ويعلو صوت المستشار "أحمد رفعت" رئيس الجلسة.. وينادي قائلا: "المتهم محمد حسني مبارك"، فيجيبه رئيس مصر السابق: "أفندم.. أنا موجود"، وعندها يواجهه المستشار بتهم ثلاثة: قتل المتظاهرين، تبديد المال العام، الإهدار العمدي للمال العام من خلال بيع الغاز الطبيعي المصري بأسعار تفضيلية تقل كثيرا عن الأسعار العالمية، وأنكر "مبارك" التهم كلها، وأجلت المحكمة نظر القضية لجلسة 15 أغسطس الحالي لإتاحة الفرصة للمحامين للإطلاع. شعور بالفرح العام تملك المصريين، تركوا كل شيء ليشهدوا الحدث.. شعروا بارتياح كبير وهم يرون صورة النهاية التي ظهر عليها "مبارك".. تتبعوا الكاميرا التي انتهكت كهولته.. تحقق أحد أهداف الثورة برؤية "مبارك" داخل قفص الاتهام، جاء علي محفة ليحاكم، شخصت الأبصار تجاه رئيس الجلسة المستشار "أحمد رفعت" الرجل الذي تقلد وشاح العدالة الأخضر وتصدي لهذه المهمة الجلل وقام بضبط الإيقاع في هذه الجلسة التاريخية، ظهر "مبارك" كرئيس سابق غير متوج ولكنه جريح تم ترويضه وإخضاعه لمحاكمة هي الأولي في تاريخ مصر، لم تنته الدراما، فما رأيناه الأربعاء الماضي كان أحد فصولها، كان أشبه ما يكون بمراسم جنازة لتشييع رئيس سابق ونظام تم إقصاؤه ومرحلة أحكمت نهايتها علي يد الثورة التي سجلت هذه المسابقة التي أذهلت العالم. أخطأ مبارك كثيرا عندما تبني سياسة خارجية ملتوية والتصق بالخط الذي رسمته أمريكا وإسرائيل.. سار علي دربهما، لهذا لم يكن غريبا أن رأينا الوزير الصهيوني بنيامين بن اليعازر يتحدث عن "مبارك" الرئيس وعن الصداقة التي كانت تجمع بينهما وحزنه الشديد علي ما آل إليه مصير هذا الرئيس، وهو أمر لابد وأن يشكل إحراجا كبيرا لرئيس مصر السابق، ففي الوقت الذي يمثل فيه أمام المحكمة ويواجه بتهم كثيرة ارتكبها ضد مصر يتحدث "بن اليعازر" عنه بحميمية بالغة ويسرد مآثره رغم أن صداقة الصهاينة لا تشرف إنسانا عاديا فما بالكم إذا كان رئيسا لمصر وإذا كان "العيازر" هو المسئول عن قتل الأسري المصريين في حرب سنة 1967؟!! علاقة مبارك بإسرائيل ارتسمت أمامها أكثر من علامة استفهام، فهي تكشف بالقطع عن نقطة ضعف عاني منها "مبارك" إزاء إسرائيل وجنرالاتها وإلا ما شرع في بيع الغاز المصري لها بثمن بخس، لقد تعامل "مبارك" مع جنرالات إسرائيل وكأنهم مريدوه الحقيقين ولا غرابة أن تبوأ بعد ذلك منزلة عليا لديهم حدت بهم إلي أن يتوجوه صديقا عزيزا وجعلت رئيس الموساد السابق يصنفه علي أنه كنز استراتيجي لإسرائيل، بل وزاد رصيده عندهم بموقفه المعادي لحماس وانحيازه الكامل لعباس وشطحاته في التماهي مع إسرائيل وموقفه من إغلاق معبر رفح، ولا شك أن كل هذا شكل إنجازات كبيرة للكيان الصهيوني. لقد ارتكب "مبارك" جرائم سياسية ألحقت الضرر بمصر يتصدرها الخضوع لأمريكا والتماهي مع إسرائيل تطبيقا لمقولة: "الطريق إلي أمريكا يمر بإسرائيل"، هذا فضلا عن تقزيم دور مصر إقليميا وإهمال دورها في افريقيا، لهذا جاءت وقائع محاكمة الرئيس السابق "مبارك" لتسجل صورة جديدة لما شهدته مصر مؤخرا وهي صورة تؤذن بدخولها مرحلة جديدة من تاريخها ترتكز علي دولة القانون والمؤسسات وانتهاء دولة الفرد، فمصر ولدت من جديد وهي تؤكد اليوم أنه لا أحد فوق المساءلة وأن القانون يطبق علي الجميع دون أية فوارق. ما حدث لمبارك يمثل درسا وعظة للآخرين، فلابد أن تكون صورة ما جري نبراسا لأي حاكم قادم فلا يحيد عن الحق مهما كانت المغريات، أما "مبارك" فلم يحسبها بطريقة صحيحة، كان يمكنه ألا يقع في هذا الفخ الذي جعله حبيس قفص الاتهام ويخضع للمحاكمة الجنائية، كان يمكن لمبارك أن ينقذ نفسه من كل هذه الأهوال التي تحيط به اليوم ولكنه وللأسف نسي نفسه ولم ير إلا المغريات التي تحيط به من سلطة ومال ونفوذ، وهي الاغراءات التي ما فتئ