تزامن غريب في معطيات الازمة الاقتصادية العالمية الاخيرة فعام 2008 الذي شهد بدايتها كان ايضا العام الذي اطلق ارتفاعات معدلات التضخم عالميا نتيجة الارتفاعات الجديدة والحادة في أسعار السلع. وفي الوقت الراهن، وبعد مرور نحو ثلاث سنوات علي تلك الفترة التي شهدت مخاوف عالمية من التضخم، ها هم صانعو السياسات يجاهدون مرة أخري من أجل العثور علي الحلول المناسبة لارتفاع الأسعار العالمية للمواد الغذائية والسلع. وها هو التضخم يطل بوجهه مرة أخري. العلاج النهائي لصدمة التضخم في 2008 تمثل في الأزمة المالية والاقتصادية التي ضربت الدول المتقدمة التي هددت لوقت وجيز بامكانية حدوث كساد عالمي. وحيث ان أحدا لا يرغب في تكرار حدوث ذلك، فان الأفكار بشأن الطريقة المثلي للسيطرة علي الأسعار العالمية دون تقويض انتعاش الاقتصاد العالمي هي كثيرة. والنتيجة معضلة بشأن السياسات التي يتعين علي البنوك المركزية انتهاجها كون أي منها لا يملك الجواب السهل علي ذلك، وربما حتي الجواب المواتي والمثير للبهجة نهائيا. وقد يتسبب رفع أسعار الفائدة لمكافحة التضخم بمعضلة اقتصادية أخري، بينما البقاء مسترخين حيال ضغوط الأسعار يهدد بالعودة الي معدلات التضخم المرتفعة التي شهدها الجيل السابق.ومع خشية البعض من أن التضخم يسير ربما علي نمط السبعينات باتجاه الصعود المستمر، بينما يري آخرون أن الارتفاعات الحالية في الأسعار تخفي الانكماش الياباني في التسعينيات وفخ الديون حيث تتراجع الأسعار وتزداد الديون مقارنة بالدخل، فان عمل البنوك المركزية قد خرج فجأة عن الطريق الذي يتبعه. وكل من الأمرين بحاجة الي علاج مؤلم. ولا يوجد بلد تسلط الضوء فيه علي مخاطر السياسة بشكل صارخ أكثر من الولاياتالمتحدة وبريطانيا، حيث القوي الاقتصادية المماثلة تمتزج مع معدلات تضخم متباينة للغاية. وفي المقابل، فان الخوف الأكبر في الولاياتالمتحدة يبقي في امكانية حدوث انكماش اقتصادي، والذي قد يغرق أكبر اقتصاد في العالم في مستنقع اقتصادي علي النمط الياباني. حتي الآن الأسعار لا تتراجع بشكل كلي، لكن معدل التضخم منخفض كما ان معدل البطالة المرتفع في الولاياتالمتحدة، يوجد ما يسميه الخبراء الاقتصاديون "فجوة في الانتاج" بين مستوي الإنتاج وحجم ما يمكن للدولة أن تنتجه في ظل حالة التوظيف الكاملة لعمالتها. والخطر المتمثل في أن تلك الفجوة قد تجر التضخم الي منطقة سالبة كان سببا مهما وراء قرار الاحتياطي الفيدرالي باطلاق جولة أخري من التسهيل الكمي كوسيلة لضخ الأموال في السوق. لذلك يبدو أن الفجوات الكبيرة في الانتاج تترجم الي تراجع في التضخم، أقله خلال بعض الفترات. وبناء علي ذلك، ينبغي الحذر من الثقة الزائدة بأن التضخم سوف يستقر ولن يشهد مزيدا من الانخفاض. و يبقي السؤال المحلي ففي مصر منذ بداية 2010، عادت مؤشرات التضخم المحلي في الارتفاع بصورة متباينة تأثرا بالاوضاع العالمية فهل يعود البنك المركزي إلي سياسة رفع الفائدة للجم التضخم، أم يبقي الفائدة منخفضة لتستمر أسعار المستهلك في مسارها التصاعدي؟ يبدو أن الخيارين لا ثالث لهما هذا العام، في حين يري المراقبون أن أحلاهما مر . ويبدو أن أغلب عوامل ارتفاع أسعار المستهلك محليا مصدرها الخارج. فالتضخم المستورد جاء بسبب ارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية والمواد الغذائية حول العالم. فالطلب العالمي ارتفع نظرا لانتعاش بعض الاقتصادات المتقدمة ونمو الأسواق الناشئة. كما أن المستثمرين العالميين وجهوا ملياراتهم للاستثمار في هذه السلع، نظرا لحالة عدم اليقين المستمرة في أسواق الأسهم والدين. كذلك، لعب ضعف الدولار دورا في هذا المجال. الا انه رغم أن أغلب عوامل التضخم المحلي ما زالت خارجية، يحذر المراقبون من الاستهانة بالعوامل الداخلية الآتية. فالإنفاق الحكومي علي مشاريع خطة التنمية لم يأخذ مداه بعد. ومن المتوقع ارتفاع الطلب العام علي السلع والخدمات بشكل كبير هذه السنة، خصوصا مع بدء تنفيذ جوانب كثيرة من خطة الحكومة للتنشيط الاقتصادي كما ان الإنفاق الاستثماري الذي تمارسه الحكومة يؤدي دون شك إلي تحفيز الطلب الخاص الي جانب عنصر الانفلات الامني . يتوقع مراقبون ارتفاع الطلب علي السكن والسلع الاستهلاكية في 2011، خصوصا أن هذا الطلب شهد خلال الفترة الماضية استقرارا علي الرغم من حدة الأزمة المالية. ومع خطة التنمية والنمو المتوقع في الطلب الخاص سيؤثر بدوره في أسعار التضخم. ويتوقع الجميع في ضوء معطيات متعددة عودة التسهيلات الائتمانية الاستهلاكية إلي النمو، ولو بشكل بطيء، في 2011، مع بدء تعافي القطاع المصرفي مما سيغذي التضخم أيضا .