في عام 1977 طلب مني أحد المستثمرين الخليجيين عمل دراسة جدوي لإنشاء استوديو للتصوير التليفزيوني بمصر وكذلك عمل شركة للإنتاج التليفزيوني ولتسويق خدمات هذا الاستوديو.. ووقتها وقفت البيروقراطية المصرية في سبيل تنفيذ هذا المشروع خلال مجهودات واتصالات ومحاولات استمرت أكثر من سبعة أشهر دون جدوي.. ثم كان القرار التوجه بهذا المشروع إلي تونس لتنفيذه هناك. ومن هنا بدأت رحلتي مع تونس (تونس الأجهزة الحكومية وتونس الشعب).. حيث استمرت العلاقة لمدة تزيد علي سبع سنوات زرت فيها تونس أكثر من عشرين زيارة وأقمت بها لفترات متقطعة خلال تلك السنوات. أما عن الأجهزة الحكومية التونسية فقد استقبلت المشروع بالترحاب الشديد وقدمت لنا وكالة تطوير التمويلات التونسية جميع التسهيلات الممكنة وحصل المشروع علي جميع الموافقات خلال أسبوع واحد!! أما عن الشعب التونسي فالكلام عنه وأنا أشير هنا إلي فترة زمنية معينة وعن حبه وعشقه للمصريين لا يتسع له هذا المقال.. وإن كنت اكتفي بالاشارة إلي عشق التونسيين للفن المصري سواء علي مستوي الغناء أو السينما أو المسرح وإلي تقديرهم لعمالقة الأدب من المصريين والأطباء والمدرسين والمهندسين والرموز المصرية في جميع المجالات.. وإلي كل ما يصدر عن مصر من ابداعات فنية وثقافية بالذات.. وكنا نلمس ذلك في الشوارع والمقاهي والمطاعم والفنادق والشواطئ في العاصمة قرطاج أو في المدن التي زرناها مثل الحمامات وسوسة والمنستير وجربه وغيرها من الأماكن في كل أرجاء تونس الخضراء. أشياء جميلة في تونس ترتبط في ذهن من يزورها سواء للعمل أو للسياحة.. فالناس بسطاء ويستمتعون بحياتهم والفكر السياحي متقدم للغاية والزعيم بورقيبة الأب الروحي للشعب التونسي في ذلك الوقت قد وجه الأجيال علي أن السياحة هي مستقبل البلد وأن بلدهم ليس عنده بترول ولا هو بالدولة الصناعية وبالتالي فإن السياحة هي الأمل.. وقد انعكس ذلك علي زيادة الوعي السياحي لدي المواطنين وهو أهم مقومات السياحة.. وتربي الشعب التونسي علي حسن الضيافة وسهولة التعامل مع الوافدين والاختلاط بهم وتقبل عاداتهم وتقاليدهم والترحيب الملائم لجميع انتماءاتهم وطوائفهم دون حساسية أو تكلف أو اصطناع.. وفي هذا السياق أذكر أنني كنت ضيفا علي مائدة الغذاء بأحد منازل الأصدقاء بتونس العاصمة وشاهدنا جميعا مباراة في كرة القدم بين الفريق القومي التونسي والفريق القومي المصري بالتليفزيون التونسي.. ولما كانت المباراة قد انتهت بفوز كبير للفريق التونسي.. وجدت علي لسان المضيفين التوانسة (التونسيين) كلمات المواساة الرقيقة التي تقول نحن نكسب المصريين فقط في كرة القدم وهم (أي المصريون) يكسبوننا في ميدان الابداع الفني والأدبي والمهارات الطبية والهندسية والتعليمية فضلا عن أن أولادنا يرددون أغاني المطربين المصريين وحوارات الفنانين المصريين في الأفلام والمسرحيات المصرية أكثر مما يرددون أغاني وحوارات أمثالهم من التوانسة! وربما ساعدت الطبيعة الرائعة لتونس وقلة عدد سكانها النسبي علي إضفاء نوع من الهدوء والسكينة والطمأنينة وحب الفن وقبول الآخر والبعد عن التطرف والمبالغة والعنف.. فكانت كل تلك الصفات تمثل سمات أساسية للمواطن التونسي. في عام 1987 حدث انقلاب تم تسميته انقلابا سلميا علي الرئيس بورقيبة وتسلم الرئيس زين العابدين بن علي مقاليد الحكم وسط ترحيب شعبي علي اعتبار أن الأخير يمثل عهد جديد يكمل ما بدأه بورقيبة وعلي نفس خطاه وعلي أساس أنه خرج من نفس العباءة وبل ساد شعور لدي المواطنين أن بورقيبة قد بارك الوضع الجديد من هذا المنطلق بعد أن أدي بورقيبة دوره وسلم الراية لأحد أبنائه.. وقد كانت تلك المباركةد لالة واضحة علي ميل الشعب التونسي إلي الاستقرار والتسامح والتعامل الواقعي مع الزمن. من المفارقات الغريبة والتي تؤكد سحر السلطة وهيمنتها وتسلطها علي النفس البشرية.. إن زين العابدين بن علي عندما تولي السلطة جاء إليها باعتبار أنه أحد أبناء تونس المخلصين الذين لهم دور في مقاومة المستعمر الفرنسي بل يقال إنه قد تم سجنه أثناد نضاله ضد المستعمر.. وقد استمرت هذه الصورة ماثلة في أذهان التوانسة عن بن علي فترة السنوات الأولي من حكمة حتي تمكنت منه بعد ذلك شهوة السلطة والسيطرة وهو ما أدي به إلي تبني السياسات الديكتاتورية فحكم تونس بقبضة من حديد ألغي فيها المعارضة والرأي الآخر وقلص الحريات إلي درجة مخيفة وصار هو وعائلته وعائلة زوجته مكمن الفساد السياسي والاقتصادي بتونس!! ومن المفارقات أيضا أن زين العابدين بن علي استطاع أن يضع تونس في مرتبة متقدمة اقتصاديا وفقا للمؤشرات والمعايير الدولية فهي تحتل وفقا لتقرير التنافسية الاقتصادية عام 2008/2009 المرتبة الأولي مغربيا وأفريقيا والمرتبة ال35 دوليا من بين 134 دولة شملها التقرير.