يختلف المثقف عن السياسى كثيرا. ولكن حين تجتمع الثقافة والسياسة فى عقل كائن بشرى، فهو قادر على أن يحقق ما يعجز عنه جيش بأكمله. أكتب ذلك بعد متابعة دقيقة لإنتاج المركز القومى للترجمة الذى أسسه د.جابر عصفور، هذا الذى يخدعك حين يعرفك أنه من مواليد المحلة الكبرى، فالحقيقة أنه من مواليد زمن إيزيس حين طارت فى أنحاء مصر لتجمع جسد أوزوريس المتناثر فى الشمال والجنوب والشرق والغرب، لتعيد وضعه بجانب بعضه، دون أن تضع الرأس محل القدم أو تضع الذراع مكان الساق، ثم تحولت إيزيس إلى يمامة ترقد على زوجها أوزوريس كى تنجب منه حورس المقاتل الهازم للشر. نعم، جابر عصفور مولود منذ ذلك الزمن القديم، ومن اكتشف ذلك هو فاروق حسنى حين أسند إليه منذ سنوات إعادة بناء المعمار النفسى للمجلس الأعلى للثقافة، وجاء مشروع الترجمة ليواصل ما انقطع بعد رفاعة رافع الطهطاوى وطه حسين، ثم ما تلقنه من أسرار البحث عبر اتساع ورفعة مشاعر سهير القلماوى، ومن بعد ذلك سعة أفق لم تستطع سنوات العمل بالخليج أن تدهسها كمعظم أساتذة الجامعة اللهم إلا قلة نادرة من أمثال أحمد أبوزيد مؤسس الأنثروبولوجيا العربية، وفؤاد زكريا الفيلسوف المتعقل رحمه الله، لم يندهش جابر عصفور بموديلات السيارات ولا بتوقيعات بيوت الأزياء على ربطات العنق ولا بأكواب الشرب القادمة من تشيكوسلوفاكيا السابقة، ولكنه آثر أن يحتفظ بأخلاقيات ابن البلد الممتزجة بشهامة الريفى وحرص المثقف على عبور حواجز العجز عن استيعاب الجديد من الأفكار دون إهمال ما فى التراث من ثراء هائل وسط الركام الذى آثر أهل التخلف النظر إليه كمجمل لتراث، واستخلص لنفسه الثراء من القديم معانقا الجديد من الأفكار حتى صار واحدا ممن ترفع إليهم هارفارد بكل جلال قدرها كى يلقى فيه مواسم مخصصة باسمه الشخصى. ولأن مساحة الإحساس بمهام الثقافة وخطورتها فى حالة عجز الدول عن النظر إلى الثقافة كمنتجة للحضارة، مساحة الإحساس بالثقافة عند فاروق حسنى تفوق خيال من ينظرون إلى الثقافة كمجرد كرسى فى الوزارة، ولذلك كان من السهل بناء جسور أخوة وتقدير بين جابر عصفور وفاروق حسنى الذى وضع من الإمكانيات ما يفوق خيال البيروقراطية المصرية العتيدة، فكان المشروع القومى للترجمة. وحين جاء مؤتمر الترجمة النابع من مركز الترجمة الذى يديره جابر عصفور، يمكنك أن تلمس فى ردهاته وأوراقه جهدا يقوم به هؤلاء المنفيون على هامش الحياة العربية على الرغم من أنهم صانعو مستقبل هذه الأمة بما يبنون من جسور بين قدرات الأجيال الشابة وبين قدرات الحضارة المعاصرة. وقد لا ينتبه المترنحون فى أوحال السلفية إلى أن مثل هذا المؤتمر الذى يقام بعد انجاز فعلى يزيد على ألف وستمائة كتاب فيهم المؤثر والحساس والجاد، وقليل منهم قد نمر عليه مرور الكرام لكن كل كتاب منها -بلا مبالغة- لا يتركك على حالك فور أن تملك الصبر على سبر أغواره. يا أيها المثقف القادر على زراعة الأمل فى زمن الجفاف، من أفكارك وحبات عرقك وتفاؤلك ينبع نهر يروى ظمأ المعرفة والتواصل.