حين تقرأ كتاب "الرقابة والتعتيم الذي أصدره مشروع مراقب" وهو المشروع النابع منذ ثلاثين عاما من جامعة سونوما الأمريكية، وبالتحديد من خلال قسم علم الاجتماع بتلك الجامعة ستجد نفسك أمام حقائق الأخبار العالمية والتي تخفيها عنا العديد من قنوات الإعلام الصاعقة التي تمطرنا ليل نهار بما يعزز سياسة الشركات العملاقة في الكون ضد بقية شعوب الأرض. والهدف من هذا المشروع هو إظهار الأخبار المختفية، مثل حقيقة المحافظين الجدد الذين سبق لهم أن باعوا السلاح الكيماوي إلي صدام حسين، وهم أيضا من باعوا المواد وأجهزة التخصيب النووي لإيران وكان التاجر الأول لتلك العملية هو ديك تشيني، هذا الذي تحمس من قبل لضرب العراق، وهو المتحمس حاليا لضرب إيران. احتفظ بالكتاب منذ أن أهداه لي في الأسبوع الماضي الصديق إبراهيم المعلم، ولم أجد كلمات أشكر بها مترجمه الرصين أحمد محمود، ولكني وضعت الكتاب أمامي لاعيش حياتي دون أن تخدعني الأخبار المقروءة في تليفزيون الكون. وهو كتاب يصدر للخمسة عشر بالمئة من شعوب الأرض القادرة علي الغوص في تفاصيل ما يجري في العالم، وعليهم يقع عبء فهم وشرح ما يدور في الكون. وبطبيعة الحال يمكن للقلب أن يري ما تسعي إليه الشعوب لشرح قضاياها، ويعجبني كثيرا أن أجد شعب العراق كواحد من الشعوب المقهورة، وهو لا يحافظ علي نفسه بالبكاء علي ما مضي ولكنه يطور من أساليب الحفاظ علي الشخصية العراقية وسط هذا السيل المنهمر من محاولات تصدير الوضع الصومالي إلي العراق. يحفظ العراقيون أنفسهم ويقدمون في العالم تاريخهم كشعب من نسيج واحد، وقد حدث هذا علي سبيل المثال مرتين في الأسبوع الماضي، وفي موقع واحد هو مكتبة الإسكندرية، فقد ظهرت علي خشبة مسرحها الصغير والأنيق فرقة "البابلي" نسبة إلي بابل القديمة وهي فرقة موسيقية عراقية كانت تقدم التراث العراقي من أشهر الأغاني والألحان العراقية الشعبية والموسيقي المعاصرة، وهي تمتاز بأسلوب حديث مع المحافظة علي الطابع التراثي، وتستخدم الآلات العراقية القديمة مثل الجوزة والسنطور والنقارة، فضلا عن الآلات العربية التقليدية مثل العود والقانون والناي والرق والطبلة، وكل العازفين فيها من الشباب العراقي الذي تخرج في معاهد الموسيقي هناك. ولم يكتف العراقيون بذلك بل ها هو الدكتور حسين أمين أستاذ التاريخ بجامعة بغداد يقدم محاضرة ضمن البرنامج الثقافي للجنة العلمية بجمعية أصدقاء مكتبة الإسكندرية عن تاريخ بغداد التي ازدهرت في التاريخ الإسلامي كعاصمة للعباسيين بعد أن اتخذها أبوجعفر المنصور عاصمة للخلافة الإسلامية ويشرح الرجل تاريخ بغداد ومن انتصرت عليهم عبر تاريخ من الغزو ثم الاحتلال ثم طرد المحتل والانتصار، فقد غزاها المغول والتتار ثم الفرس ثم الأتراك وتعرضت للعديد من الحرائق والنهب، ولكنها أخيرا بقيت بغداد وذهب الغزاة. وهكذا لا تصبح فضيحة الغزو والاحتلال والتبعية مجرد أخبار ملفقة عن "ديمقراطية" فيها من القتلي أكثر مما فيها من أصوات في صناديق الاقتراع، هي ديمقراطية مزيفة إلي أن يقيض الله للعراقيين من يعلو بهم علي قيظ الغباء القبلي والاثني ليتذكروا أنهم بناة حضارة، ويمكنهم الاعتماد علي أنفسهم وابداع حياتهم، خصوصا وهم يملكون من عصب الحضارة المعاصرة ما يجعلهم قادرين علي هزيمة المحتل وإعادة بناء العراق الحديث، بما يملكونه أيضا من طاقة الفرح والبهجة التي تزرع الثقة في النفس.