قصدت أن أخاطب فيروز باسمها الحقيقي المدون في شهادة ميلادها، لأني أخاطب الإنسانة قبل "جارة القمر".. نهاد التي تشبثت بأرض لبنان في عز الحرب الأهلية. نهاد التي قالت يوما "لا قبر لي إلا في بيروت". نهاد التي رفضت أن تهاجر إلي كندا أيام القصف علي بيروت مثل مئات اللبنانيين وقالت لأصدقائها الذين ألحوا عليها "ما بترك انطلياس" وتقصد الحي الذي تعيش فيه في العاصمة اللبنانية. نهاد التي إذا اضطرت للسفر لتغني في أي بلد، قيل لها استريحي من المجهود الشاق بين بروفات وغناء. قالت "راحتي الحقيقية ببيتي". نهاد التي حين جاءت لتغني في مصر طلبت أن تقيم في فندق بجوار الأهرامات الثلاثة "!" ويومها سألتها عن السر في حديقة الفندق وكنت مدعوا علي العشاء علي مائدة ترحيب بها، فقالت "مصر". إجابة بكلمة واحدة فيها كل المراد. انها فيروز التي تخفي بين ضلوعها وطنية وانتماء يكفي مائة إنسان وأكثر. انها فيروز التي تشدو، فنسقط في مجالها المغناطيسي ونعطيها اصغاء بالقلب قبل الأذنين وبلا سقف أو حدود. فيروز هي التي ذهبت لتغني في دمشق وقد تجاوزت "التوترات السياسية"، بين لبنان والشام، فهي فنانة كل العرب. ولم يكن من الانصاف تطاول بعض الأقلام عليها لأنها غنت في دمشق. انها "صيغة متخلفة" أن نقحم السياسة في الفن. ولا يمكن أن تعادي الشعوب بعضها. والقرب الجغرافي بين دمشقوبيروت خلق شعبيا علاقات متينة إنسانيا، وحين ذهبت الفيروزة إلي دمشق، كانت تدرك جيدا انها سفيرة للفن، ربما يهديء هذا من حدة التراشق السياسي. فالفنان يحتوي السياسة ولا يسمح لها أن تثنيه عن الفن لكل الأطياف. الذين هاجموا فيروز لأنها ذهبت تغني في الشام، أولي بهم أن يوحدوا الصفوف اللبنانية المتنافرة لاختيار "رئيس"، وقد فشلت أكثر من 10 جلسات وفشلت مساعي القاهرة ومساعي الجامعة العربية بل فشلت مساعي أوروبا وعلي رأسها فرنسا. كل هذا الفشل يدعو لتوحيد الهدف اللبناني قبل أن يحكمه منطق القبائل! سألت مرة الموسيقار محمد عبد الوهاب علي شاشة التليفزيون: لماذا لم تنتم لحزب من الأحزاب في شبابك؟ وقال عبد الوهاب: تعلمت من شوقي بك يقصد الشاعر الكبير أحمد شوقي أن الفن ضد الانتماء الحزبي، فأنا أغني لكل الناس، وكل الأحزاب وكل الطوائف. ومغني بحجم عبدالوهاب يعترف أن الفن فوق تقلبات السياسة وألاعيبها. وأم كلثوم أيضا، لم نعرف لها أي انتماء حزبي، بل كان لها معجبون وأصدقاء من أقطاب الأحزاب السياسية في مصر قبل ثورة يولية. فيروز تفطن إلي أن الفن كالشمس تطلع علي كل الناس مهما كانت انتماءاتهم. فيروز، التي ذهبت لدمشق لتغني هناك قفزت فوق الحواجز السياسية ولا تستحق أي وصف ظالم لهذا السلوك. فهي فنانة أولا وأخيرا إلا إذا كان بعض "المنظرين" وما أكثرهم هذه الأيام يريد "تسييس" الفن. لقد كانت أم كلثوم بصوتها وشدوها "توحد" أمة العرب من المحيط إلي الخليج. فيروز أيضا قادرة بشدوها وكيانها أن توحد الصف العربي الذي بات "يتقلب علي جمر النار" من قبليات زائلة. وغدا أو بعد غد، يعود الصفاء بين دمشقوبيروت، فالخصام بين الأنظمة السياسية ليس خصاما بين الشعوب، وهكذا السياسة! ما أروعك يا نهاد حداد سفيرة للمحبة. ما أروعك يا ست الدنيا، يا فيروز.