تمنيت أن أكتب في موضوع مختلف عن "الشأن العام" ولكني أجد الشأن العام يشدني إلي ساحته ويزرعني في أرضه المليئة بالأوحال! انني أضع نفسي مكان القارئ العادي أي إنسان مصر البسيط هذا "المخلوق" الذي يتحدثون عن دعمه النقدي أولا. هذا المخلوق الذي يتكلم البعض باسمه رغما عنه! يمسك بالصحف القومية فيجد "الدنيا بمبي". يمسك بصحف المعارضة، فيفاجأ بأن "الدنيا سودة". يمسك ببعض الصحف الخاصة فيشعر أن أحداً يحرضه علي التمرد ويشعل أعصابه بالغضب. لو سألت أحدهم من الفاهمين، لقال لك إنها الديمقراطية والناس تدفع الثمن. وقال أيضا من الطبيعي أن تجد الصحف القومية تشيد بالنظام وتحجب عن العيون اخطاءه. وتقنعك بأن كل شيء تمام وأن معدلات النمو في ازدياد مستعينة بأرقام جهاز دعم القرار. فإذا شكوت من الغلاء قيل لك إن العالم كله يشكو من الغلاء وشرح لك مفسر رسمي أن العيلة تشكو من الغلاء لأن الموبايل في أيدي الأولاد التهم جزءا من ميزانية البيت وعليك أن تسكت! وقال الفاهم اللبيب إنه من الطبيعي أن صحف المعارضة "تخبط" في الحكومة فهذا أمر وارد جدا أن تلجأ الصحيفة إلي "تعكير" صفو الحكومة وصفو الوزراء وصفو الناس، والناس في مصر والعبارة لنجيب محفوظ "يميلون للاستقبال الدرامي" أي السيئ من الأخبار والصورة السلبية بكل ظلالها السوداء. ويتوقف الأمر علي وعي المستقبل للمعلومات. ذات مرة قال لي أحد الوزراء إنه "يعطي صحف المعارضة والخاصة نصيبا أكبر من الحملة التي يعلنها ربما أكثر من صحف الحكومة". ولما أبديت له دهشتي قال "ونصيب القنوات الأخري أكثر من قنوات الدولة الرسمية" وأبديت دهشتي أكثر باستغراب، ولكنه قال "المهم أن يصل مضمون الحملة الإعلانية لقراء أكثر ومشاهدين أكثر"!! وقال الفاهم اللبيب: الصحف الخاصة بعضها فاضح، اكتشفه الناس بعد قراءة واعية فاقلعوا عن شرائها وقراءتها. ويصدق قول هيكل "إن بعض الصحف تحدد بما تنشره تاريخ عدم صلاحيتها.."! بعض الصحف الخاصة تأخذ شكل الصحيفة العاقلة "تنشر كل ما يهم قارئها ولا مانع أن تدس السم والتحريض الواضح فيه". الناس تقرأ وتتأثر وتشعر بالضيق وقد تدخل في موجة اكتئاب تولد انفجارات داخلية! الناس "اتلخبطت". هل تفرح أم تحزن أم تجلس في مقاعد المتفرجين بإحساس متحجر محايد فلا هي سعيدة ولا هي تعيسة؟! ويشعر الناس كل سكان المحروسة أن رئيس مصر هو "المنقذ" ودائما في اللحظات الأخيرة. وربما يتشبع الناس بالمرارة وقد يضيقون ببطء القرار. الناس تريد قرارا فوريا لا يسمح للمتزايدين أن يتدخلوا. والرئيس وصف لي مرة عبر حوار مذاع أن البطء في القرار ليس بطئا بل "تريث لادراك أبعاد الصورة وعمقها". وظني أن هذه حكمة مبارك التي لن نستشعرها اليوم بل غدا. فالرئيس تدخل في بقاء الدعم. والرئيس أوقف إنشاء عاصمة جديدة تتكلف مبالغ فلكية. والرئيس يشترك بنفسه في أحد مجالس وزراء الحكومة يدرس موضوعا أو يعرض أحد الوزراء بحثا كلفه به. والرئيس رجل متفائل وتفاؤله يطارد رياح التشاؤم مهما كانت عاتية. والناس حين يمتلئون بالكآبة يتطلعون إلي قرارات صائبة، بشرط أن يكون العرض عليه صادقا بكل مرارته. فالعرض ومنهجه في لغة السياسة سبيل للحلول العملية لقضايا الناس. والعرض الذي "يهون" من الأمر أو "يبالغ" فيه، لا يخرج بما يريح الناس! السياسة هي حياة الناس اليومية وليست الوعود والبرامج بل المعايشة علي أرض واقع يحسبه الناس مرا احيانا من وخز الصحف وتشويش الفضائيات.