عندما أتوجه كل يوم اثنين إلي مبني التلفزيون في ماسبيرو وكلي عزم لتخرج الحلقة الاسبوعية من برنامج "اتكلم" في أفضل صورة للجمهور، ولا يثني من ذلك العزم إلا عبء الدخول من باب (15)، حيث أحمل همّ حشود المواطنين "الغلابة" الذين يتسلحون بأوراق في أيديهم تحمل شكاواهم، وأمل في مسئول ينتبه إليهم. وجه عجوز جدا.. يعتمد علي عصا وشخص مرافق له، حفظت ملامح وجهه التي ملأها الزمن بكل ضروب القسوة، فانعكست تجاعيد وثنايا غائرة في بشرته التي فقدت اللون والتعبير. يظل هذا العجوز واقفا في انتظار أي وزير يتصادف دخوله للتسجيل في برامج التلفزيون أو للمشاركة في برامج الهواء.. أو أي مسئول آخر.. أو حتي المذيعين اللامعين في البرامج اليومية: محمود سعد، المعروف بإنسانيته ورقة قلبه للضعفاء والمرضي في هذا الوطن، الكابتن شوبير عضو مجلس الشعب ومذيع الدرجة الثالثة، تامر أمين مذيع البيت بيتك.. ويتعلق العجوز بسيارة الداخلين إلي مبني ماسبيرو، يسلم نسخة متشابهة من شكاواه.. الدواء الذي يحتاجه، ولا يجد من يشتريه له، والغرفة التي طرد منها ولا يجد مأوي بعدها. وتتكرر مشاهد هؤلاء الباحثين عن مسئول "إنسان" يستمع إلي شكاواهم ويجد لها حلولا. سيدة في منتصف العمر، قد تكون أصغر سنا مما تبدو، لكن الزمن ألقي بثقله علي كاهلها فحولها إلي مرحلة الشيخوخة مبكرا، تدفع ابنها أو قد يكون حفيدها، مُقعدا علي كرسي متحرك، وتستجير بأي زائر للتلفزيون، متسلحة بعدد من الأوراق: صورة البطاقة وطلب يتضمن مشكلتها.. وتهجم بشكل تلقائي علي من يهمّ بدخول باب التلفزيون مدفوعة بأمل الوصول إلي حل. وما إن يخيب أملها حتي تنهمر دموعها وتعلو حشرجات صوتها وهي مختنقة بدموعها التي تمسحها بطرحتها السوداء القاتمة قتامة الدنيا في عينيها. سيدة أخري ومعها "قرطة عيال".. أحدهم رضيع تحمله علي كتفها يصدر بكاء مفزعا بين الفينة والأخري.. لم أفهم منها الشيء الكثير.. لكن موظف الأمن أوضح لي أنها تبحث عن مسكن للإيواء.. أو غرفة "تكنّ" فيها مع أبنائها وزوجها المريض. ما أقسي الحياة علي باب التلفزيون!! "عم أحمد".. بدوره يحمل ملفا متهالكا بالأوراق، لديه خصومة قضائية، فُصل من عمله، وخسر القضية، ويبحث عن رد حقه "لأن الذي لا ظهر له في البلد يضيع حقه". قصة "عم أحمد" تحتاج إلي ساعات لشرحها، والوقفة أمام باب التلفزيون لن تكف حتي لعرض المقدمة، سلم الملف صاغرا لأحد الزملاء الذي وعده بدوره بتسليمه للمذيع محمود سعد، فقد علّق "عم أحمد" كل آماله في الحياة علي أن يهتم مذيعه المفضل بقضيته. هؤلاء الناس المكلومون يبحثون عن رُسل الإنسانية الجدد، رجال الإعلام، وقد تحول دورهم إلي إغاثة المستغيثين بهم، إنهم ممثلو الشعب الذين انتخبهم واختارهم ولجأ إليهم بعدما استحالت عيشتهم، ويئسوا من الوصول إلي المسئول الذي ينقذهم. فما أقسي الحياة عندما توصد الأبواب أمام الناس، ويصبح المرض لدي الفقير مهانة، ويضحي الفقير بلا مأوي إعداما، ويتحول المواطن إلي غريب في بلده! "والغريب من هو في وطنه غريب" (أبوحيان التوحيدي). المشاهد يومية أمام مبني ماسبيرو وتقطر بالمعاني المخيفة، والمشاهد مثلها يومية أيضا أمام مجلس الشعب، والشوري، والمصالح الحكومية، والوزارات، ولم أر وزيرا أو أسمع عن مسئول ترجّل من سيارته وهو يدخل من باب الوزارة ليلتقط تلك الاستغاثات، أو يشارك الناس "وجدانيا" في مصائبهم لأن "قهوة" الصباح والمساء علي الأبواب الرسمية الموصدة كفيلة بأن تعكر دماء الوزراء وترفع لهم الضغط.. و"الناس - كافيه" في المكاتب أكثر أمانا وسلامة! رحم الله عمر بن الخطاب!! الأجمل قد لا يأتي ما أجمل يوم في عمرك؟ هل تذكره؟ هل تعرفه أصلا؟ هل يوم مولدك.. أم يوم دخولك المدرسة، أم الكلية، أم يوم تخرجك، أم يوم فوزك بالوظيفة، أم يوم زواجك، أم يوم إنجاب أول أبنائك؟ الخوف أن يكون يوما لن يأتي، بل لن تراه ولن تشعر به أبدا.. لأنك ستكون محمولا علي خشبة بالأمام، يسير وراءك حفنة من المعارف والأصدقاء.. يوصلونك إلي مكان فيه الراحة الأبدية!! طلعت حرب "إذا أردت أن يكون قرارك من رأسك فلابد أن يكون رغيفك من فأسك". ما أروعك.. وما أبعدنا عنك! موت المعاني كيف تذبح أحباءك بدون دماء كيف تخدع بمنتهي الذكاء ما أصعب موت المعاني ما أصعب قتل الأماني أخبرك.. إني حقا أعاني!! "جزء من قصيدة أعجبتني في منتدي الفاجومية".