قبل عدة سنوات كنت في زيارة لأحد الأثرياء في منطقة الخليج العربية حيث ذهبت معه إلي منزله الفخم الذي أقامه علي الطراز المعماري الإسلامي القديم. وكان المنزل تحفة فنية بكل المقاييس والمعايير ويصلح لاستضافة متحف إسلاميا كاملا أكثر من كونه منزلا لشخص واحد. وعرض الرجل للمقتنيات الفنية القيمة في منزله، فهذا الجزء من المغرب وذاك من العراق، وهذه "المشربيات" الجميلة التي تعيدك إلي أجواء "الغورية" وبيوتها الأثرية الرائعة أتت من مصر.. وبينما كان الرجل يستطرد في استعراض كنوزه الأثرية التي قام بتجميعها من كل مكان فإنني تساءلت عن طريقة حصوله علي هذه "المشربيات" والأبواب الخشبية التي لا تقدر بثمن فإنه لم يجد ما يقوله إلا ابتسامة واسعة تروي باختصار كل الحكاية والرواية..! ولقد تذكرت هذه الابتسامة وأنا أقرأ خبر نجاح اللصوص في القاهرة في سرقة باب منبر مسجد الأشرف برسباي الأثري في منطقة القاهرة التاريخية وبالتحديد في شارع المعز لدين الله عند تلاقيه بشارع جوهر القائد وهو أحد ثلاثة مساجد أنشأها الملك الأشرف برسباي. وطبقا لما نشر في الصحف عن شكل الباب المسروق فإنه يمثل تحفة فنية رائعة حيث تتميز ضلفتا باب المنبر بالنقوش الإسلامية الجمالية ومكسوتان بالنحاس. وليس غريبا أو مستبعدا أن يكون هذا الباب الأثري قد وجد طريقه إلي خارج مصر قبل اكتشاف سرقته من قبل المسئولين عن الآثار فمثل هذه العمليات لسرقة الآثار لا يقوم بها هواة ينتظرون حتي يتم ابلاغ "الانتربول" ويصبح صعبا عليهم الخروج بهذه الكنوز إلي خارج مصر..! فسرقة باب بهذا الحجم عملية ليست سهلة ولابد أن كانت هناك ترتيبات وتسهيلات وضمانات وتطمينات أيضا..! وحدوث ذلك هو أمر طبيعي في واقع الأمر في ظل الاهمال الكبير والمخيف الذي تتعرض له كنوزنا وثرواتنا الأثرية وخاصة الإسلامية. فلقد كان هناك نوع من التركيز علي آثارنا الفرعونية من منطلق الاعتقاد بأنها الأكثر سحرا واثارة وغموضا وأن هناك اهتماما غربياً خاصا بالاكتشافات وبالتاريخ الفرعوني في مقابل اهمال واضح للآثار الاسلامية والقبطية أيضا وهي آثار تزخر بها مصر وتجعل منها متحفا مفتوحا للثقافة والتاريخ العربي والإسلامي..! ومازالت هذه الآثار الإسلامية لا تلقي اهتماما ولا رعاية كافية ولو أن هناك ادراكا أو احتراما لقيمة هذه الآثار لكانت منطقة مثل القلعة وما حولها قد تم تحويلها إلي منطقة أثرية بالكامل يمنع فيها البناء أو دخول السيارات ولكان تم تعويض السكان ونقلهم إلي مدن جديدة وكان من السهل الحصول علي قيمة هذه التعويضات من عائدات السياحة الضخمة التي من المتوقع أن تأتي جراء تحويل هذه المناطق إلي مزارات سياحية بها كل التسهيلات ووسائل الراحة بدلا من أن تكون كل منطقة القلعة الأثرية بدون دورة مياه عمومية واحدة كما هو الحال الآن.. ولو أن هناك دورة مياه فإنها لن تكون سياحية بالطبع..! وفي العديد من شوارع ومناطق القاهرة الفاطمية الاثرية فإن هذه الآثار تعامل بلا مبالاة شديدة من المسئولين ومن المواطنين الذين حولوا بعضها إلي مخازن لبضائعهم ووصل الأمر إلي حد إقامة سوق شعبي في منطقة الغورية التي تمتلئ بالمساجد الأثرية ذات التاريخ والقيمة الفنية العالية وهو سوق يتم فيه بيع كل شيء وأصبحت جدران هذه المساجد بمثابة الخلفية لأكشاك البيع ولعرض الملابس والسجاجيد. إن هناك من يعرف قيمة هذه الآثار ومن يوجه إلي سرقتها والاتجار فيها وبيعها إلي الزبائن الذين يستطيعون تقدير قيمتها الفنية ويستمتعون بامتلاكها والمحافظة عليها بينما علي الجانب الآخر فإن هناك من يفرطون بسهولة في هذا التاريخ أو لايدركون جيدا قيمة ومكانة ما يملكون، ويتعاملون مع هذه الكنوز بتراخ واستهتار مثير للجنون. إن عصابات سرقة آثار مصر الفرعونية وهي عصابات قائمة وممتدة عبر قرون وقرون حيث قامت بالسطو علي كنوز مصر الفرعونية وأتخمت بها متاحف العالم وبيوت أثريائه، هذه العصابات وجدت مع ما يبدو أن هناك رقابة دولية ومتابعة دقيقة لحركة هذه الاثار وامكانية استعادتها أيضا فقررت أن تتجه اتجاها آخر نحو الآثار الإسلامية التي لها سوق رائجة في العالم العربي وحيث لا رقابة ولا متابعة ولا لغة إلا لغة المال والنفوذ وحيث لا ملاحقات ولا مطالبات ولا عواقب كثيرة. لقد سرقوا باب المسجد هذه المرة وليس مستبعدا أن تكون الخطوة القادمة سرقة زجاج النوافذ الملونة ذات النقوش الجميلة وإن كان في مقدورهم سرقة جدرانه لربما فعلوا ذلك أيضا.. فالدنيا هايصة والناس لايصة.. ولا أحد يدري شيئا فنحن في مولد ممتد وفي المولد تقع بلاوي كثيرة وتختفي أشيئا كثيرة مع أن حلقات الذكر منصوبة..! [email protected]