هل نحن نشهد حالة من الرخاء لم يسبق لها مثيل؟ أم نحن نشهد حالة من الضنك والضيق لم يسبق لها مثيل؟ إذا قلنا أن الدليل علي حالة الرخاء هو حجم المبيعات في محلات البقالة والسوبر ماركت.. وإذا قلنا أن الدليل علي حالة الضنك هو الطوابير أمام مخابز العيش.. فهل يصلح في هذه الحالة استخدام تلك المؤشرات علي الجانبين؟ أم أن الأمر علي خلاف ذلك. والسؤال هو هل هذه الخلافات حول مؤشرات الرخاء أو مؤشرات عدم الرخاء يمكن حسمها.. فإذا قالت لنا الحكومة مثلا إن هناك مؤشرات تدل علي حدوث قفزة في النمو الاقتصادي وتحسن جودة الحياة وقال البعض الآخر إن المواطن العادي لا يشعر بتلك القفزة إلي أعلي أو إلي الأمام ولكنه قد يشعر أنها قفزة إلي أسفل أو إلي الوراء.. فماذا نقول. لقد عرضنا في الاسبوع السابق لتلك الفوضي وربما العشوائية التي تسود المعالجات لأمور حياتنا في وسائل الاعلام فإن البعض يصور الأمر علي أننا في جنة الخلد والبعض الآخر يصورها علي أننا في عين الحجيم وقلت لصاحبي الذي طرح علي السؤال ماذا هناك؟ واتفقنا علي أن كلا الأمرين غير صحيح فلا نحن في جنة الخلد ولا نحن في النار وأثرنا عدة ملاحظات حول هذا الأمر خلصنا من خلالها إلي أن المنهج الصائب يتلخص فيما يلي: أولا: أن نحدد علي ماذا نختلف؟ هل علي توجهات وخيارات المجتمع الاساسية؟ أم حول السياسات والآليات اللازمة لتنفيذ تلك الخيارات والأهداف وخلصنا إلي أن من يحدد خيارات المجتمع ليس رأي فرد مهما كانت درايته ولكنه خيار يحسمه جموع وغالبية الأفراد من خلال مجالسهم النيابية.. فرأي الجماعة لا تشقي البلاد به ورأي الفرد يشقيها.. أما الخلاف حول السياسات والآليات فمطلوب ومرغوب بل ومفيد إذا جاء في إطار جاد ومنضبط والاجتهاد هنا واجب علي الجميع نخبة ومواطنين. ثانيا: إذا كان الخلاف حول السياسات والآليات فكيف نضع منهجا صحيحا لإدارة الحوار حول نقاط الخلاف؟.. وهذا أيها السادة هو بيت القصيد.. لأن الحوار الدائر الآن يقسم الأمر علي جانبين.. جانب يتهم أصحاب الرأي المخالف بأنهم يريدون تقويض مؤسسات الدولة الاساسية ووراء ذلك نيات غير طيبة لا يجب أن نسمع لها أو نسمح لها ويجب أن نوقفها بسيف القانون.. وجانب آخر يتهم من يقولون بذلك بأنهم حملة المباخر الذين تسببوا في كل المساوئ التي أصابت الوطن أو هكذا يقولون. ولذلك كانت الضوابط هنا لازمة ولعل من أهمها ما يلي: 1- أن نستبعد مؤقتا "نظرية المؤامرة" مع أنها واردة وسوء القصد حتي نبدأ النقاش علي أساس موضوعي ولا نفتش في النوايا.. فيستطيع كل فريق أن يضع أسبابه وراء ما يقترح من سياسات وآليات نقول لأولئك وهؤلاء نعم هناك مشكلات أو تحديات أو حتي فساد فكيف ترون السياسات والآليات اللازمة لمواجهة تلك التحديات؟ 2- يجب أن تأتي مقترحات العلاج قابلة للتطبيق وواضحة ومحددة ومن خلال حوار يلتزم بآداب الحوار وليس منفلتا أو يقول كلاما ليس له معني ولا مضمون وليس له هدف إلا دغدغة مشاعر الناس وخداعهم.. ظاهره الرحمة وباطنه العذاب.. نعم يلزم أن يكون الاجتهاد بشروطه.. صادقا وواضحا ويستند إلي ضوابط سليمة ومرجعيات مدققة وأدلة كافية ويستهدف النفع العام. 3- أن يكون منهج الحوار يستند إلي "شمول الرؤية" فيري الايجابيات كما يرصد السلبيات ويستند أيضا إلي "وضوح الهدف" فيشير إلي طريق أو طرق العلاج كما يستند إلي سلامة المقصد فيستبعد الاستناد إلي النوايا التي لا يعلمها إلا الله وإلي التفتيش في الضمائر كمنهج لاستبعاد الآخر من الحوار.. دعنا نتحاور علي أساس وسوف يبين الغث من السمين والصالح من الطالح ودع الناس تحكم وتقيم وتتعلم. ثالثا: من المسئول عن إخراجنا من تلك الظلمة.. وأقصد هنا ظلمة الحوار الذي لا ينتهي إلي شيء.. أي من المسئول عن إدارة الحوار والخروج منه بالنتائج؟ هل هي الحكومة أم هي الأحزاب؟ أم هي النقابات والاتحادات ومنظمات المجتمع المدني؟ هل هي المجالس النيابية المنتخبة؟ لا شك عندي أن المجالس النيابية المنتخبة هي المعنية بذلك والمسئولة عنه.. ولكن رغم ذلك فلا مانع من أن تكون هناك مجموعة من كل هؤلاء الاطراف ذات الصلة تشرف علي اجراء الحوار عبر كل الوسائل المتاحة في إطار الضوابط التي أشرنا إليها وتنتهي إلي مجموعة من النتائج لا تفرضها ولكن تقدمها كمقترحات لمساعدة متخذ القرار.. هي حصيلة حوار جماعي رشيد يمكن أن يقدم الرؤية والحلول غير المقيدة بمواقع سياسية أو التزامات حزبية أو ميول مهنية.. هو فقط يلتزم بصالح المجتمع بجميع أبنائه. وقد يسأل سائل وهل لمثل هذا الكيان وجود في أية دولة في العالم؟ وأبادر إلي القولي بأن هذا ليس كياناًقانوني أو حتي سياسياً أنه مجرد آلية لتنظيم الحوار حتي تتضح الرؤي العامة أو ما يمكن أن يكون "استطلاع رأي محكم" حول بعض الأمور المتعلقة "بالسياسات والآليات" اللازمة للوصول إلي أهداف متفق عليها وخيارات قررها المجتمع.. ولو كان لدينا مراكز أهلية مستقلة وتمتلك امكانيات كافية لإجراء مثل هذه الاستطلاعات والتي يري الناس أنها بحكم تكوينها وممارستها وحرفيتها مستقلة.. لكانت هي الأولي بذلك كله أنني أري مثلا أن مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار الذي يرأسه د.ماجد عثمان يعمل بشكل مستقل وما صدر عنه من استطلاعات للرأي يفصح عن ذلك في نتائجه ولكن البعض قد يري في تبعيته لمجلس الوزراء ما يضع حدودا حول تلك الاستقلالية.. ومن هنا الاقتراح وراء تلك الآلية التي يمكن أن يراها الناس مستقلة. رابعا: علينا أن نضع المؤشرات والمرجعيات التي تحتكم إليها لتقييم وقياس النتائج التي نتوصل إليها من خلال تلك الآليات. وهذا يجعل من الاجابة علي الاسئلة التي طرحناها في البداية من أمثلة: هل نحن في جنة الخلد أم نحن في النار؟ وهل نحن في رخاء أم نحن في ضنك وضيق؟ وهل فعلا نحن متجهون إلي الأفضل؟ وهل تتوزع ثمار التنمية بشكل جيد بين الناس؟ وهل ينال محدودو الدخل الرعاية الواجبة؟ هل حققت سياسة الدعم أهدافها بكفاءة؟ هل آليات السوق كما هي قائمة عندنا تحقق الكفاءة في ترشيد الموارد وتؤدي إلي منافسة في صالح المستهلك؟ هل حقوق المواطن مصانة بالقدر الكافي؟ هل الصحافة لدينا تمثل سلطة رابعة فعلا أم قولا فقط؟ هل يتحسن دخل المواطن من سنة لأخري حقيقية ويرفع مستوي جودة حياته؟ هل لدينا الآليات الفعالة والكافية ما يمكن أن يكشف الفساد في أي موقع ويردعه؟ هل يوجد تكافؤ فرص حقيقي في المجتمع وفي كل المجالات؟ كيف نقيس أداء الحكومة بعدالة وموضوعية؟ هل لدينا تعليم حقيقي أم لدينا مدارس وجامعات لتخريج طلاب لا يحتاج إليهم سوق العمل؟ هل لدينا مراكز تدريب حقيقية أم لدينا عشوائية في التدريب الشكلي. عشرات الاسئلة يجب أن نتفق علي المعايير التي تحكم الاجابة عنها والآليات التي من خلالها يتم تطبيق تلك المعايير بعدالة وموضوعية وتلك هي القضية يا صاحبي.