"بدور راحت فطيس".. تلك الطفلة التي لا ذنب لها إلا أنها ولدت وتربت في مجتمع تأكله العادات وتغتال إنسانيته التقاليد، ويصبح الإنسان في تلك البيئة ضئيلا، لا يساوي حتي الروح التي تتحرك داخل الجسد، بل لا يساوي إلا اسما في دفتر المواليد والوفيات. "بدور" اغتيلت طفولتها، ولم نر مظاهرات خرجت في الشوارع، ولا وقفة علي سلالم نقابة الصحفيين، أو سلالم دار القضاء العالي التي طالما شهدت ردود فعل غاضبة لقادة الفكر والرأي في المجتمع ضد ممارسات النظام، وضد قرارات الحكومة! إن سلطة المجتمع أقوي وأكثر سيطرة من سلطة النظام والدولة بأكملها لذلك خرست الأصوات العالية، ومرت الجريمة في صمت مدوّ، وتستمر حياة عشرات الآلاف من "بدور" مظلمة، ولا يظهر حتي "هلال" يوحي بأن القمر سيبزغ يوما ما. وما أشبه اليوم بالبارحة، فبدور راحت ضحية عملية ختان فاشلة في مغاغة بالمنيا عشية انعقاد مؤتمر مناهضة العنف ضد الأطفال، وقناة ال"سي ان ان" بثت تقريرا مصورا عن احتفال بختان طفلة مصرية عشية انعقاد مؤتمر السكان. ورغم مضي أكثر من ثلاثة عشر عاما علي الواقعتين فإن القاسم المشترك بينهما استمرار هذه الظاهرة: ختان الإناث! وهي جريمة في حق البنات، وفي حق المجتمع المصري بالأمس واليوم.. ولكنها أشد إيلاما وقسوة ونحن في نهاية العشرية الأولي من القرن الواحد والعشرين، لأننا نمنا بعد الفضيحة الأولي، ولم نستيقظ إلا علي المصيبة الثانية لنكتشف أفراد ومؤسسات نظام ومجتمع مدني أن الظاهرة مستمرة. لم نتعلم أو نستفد من التجربة الأولي شيئا، لكن فقط فكرة سمعة مصر و"حكاية" المؤامرة التي ينسجها العالم ضدنا ليسيء إلينا ويظهر بشاعتنا.. لكننا ظللنا مقتنعين بأننا مجتمع "طيب" وخير والناس "بتكرهنا" وتتآمر ضدنا. وهبت الشخصيات العامة والسياسية آنذاك تستنكر تلك الإساءة المتعمدة من ال"سي ان ان"، دون أن يتبلور تجريم حقيقي وتشريعي واضح لختان الإناث يعاقب من يرتكبه ومن يشارك فيه. ظللنا ندفن رءوسنا في التراب، ولم نواجه مشاكلنا، وعاداتنا السيئة، واستمرت تلك الجرائم تقترف باسم الدين، والدين منها براء! والأمر لن ينتهي بوقفة دقيقة حدادا علي "بدور"، ولا بقرار من وزير الصحة يمنع ارتكاب هذه الجرائم، لابد من تحويل ذلك إلي الجنايات وتغليظ العقوبة بالحبس باعتبارها جناية وليست مجرد مخالفة وظيفية أو جنحة. لابد أيضا من اغلاق العيادة ووقف من يشارك في هذه الجريمة من ممارسة مهنته ومحاكمته أمام محكمة الجنايات. ولابد من الضرب بيد من حديد عودة ظهور "الداية" التي يحذر منها الأطباء كنتيجة لمنع الأطباء من القيام بعملية الختان. فقد قرأت في موقع إحدي المدونات اعترافات طبيب في إحدي المصحات بالريف المصري يؤكد أنه اضطر للقيام بالختان بعد أن رأي "التنكيل" الجراحي الذي يقوم به بعض زملائه، ومن منطلق أخف الأضرار. إن الأيدي المرتعشة التي تتولي إصدار القرارات لابد أن تنتفض وتتخلص من هذا المرض، فنفس تلك الأيدي وبنفس ذلك الارتعاش أصدرت قرارات مماثلة إبان فضيحة مؤتمر السكان، والنتيجة أن القرار كان "إعلاميا" ولم ينفذ بدعوي أن التقاليد أقوي وأشد شراسة من أي قرار أو قانون، وأفرغ من مضمونه، وعادت العيادات الخاصة، والوحدات الصحية شريكة في تلك الجرائم اليومية. "بدور" دفعت حياتها ثمنا لقضية غير انسانية، لا تمت للعقيدة بصلة، وتاَمرنا جميعا في اغتيالها، بصمتنا تارة، وبترك القضية برمتها بين أيدي بعض الشيوخ تارة أخري يستخدمون العصا الغليظة "الفتاوي" في إخافة كل من تسوّل له نفسه أن يدافع عن "بدور" وأمثالها ويطالب بحقهن في الحياة أولا، وبحقهن في الحياة الطبيعية أولا وأخيرا. لن أنسي ما حييت صورة تلك الفتاة ذات الثامنة ربيعا، وهي تصرخ وتستغيث في عيادة أمراض نسا في مدينة بورسعيد، عندما لجأت لتلك الطبيبة في صيف عام ،1989 وكنت يومها حاملا في طفلتي الأولي، ولأعراض طارئة لجأت لعيادة بشكل عشوائي فوجدت الطبيبة قد تحولت إلي "جزارة"، حيث كانت بصدد اجراء عملية ختان، وانتقل الذعر الذي لمسته في تلك الطفلة إلي كابوس يلازمني لأكثر من عام، وتساءلت يومها، وأنا القادمة من بلد اَخر وثقافة مغايرة، تحترم جسد الانسان عامة، وجسد الطفل خاصة لأنه ضعيف ولا يعرف كيف يدافع عن نفسه، تساءلت: كيف يقبل المجتمع بهذه المجزرة؟ وأين مثقفو المجتمع وأصحاب القلم والرأي والعلم؟ ولماذا يقبل الأطباء الذين هم حلفوا قسم أبوقراط أن يقطعوا جسد طفلة بهذا الدم البارد؟! إن المجتمع لم يفعل بعلمهم وتعليمهم شيئا! وتكررت مشاهد العنف تلك حيث "ذبحت" طفلتان كانتا في شقة مجاورة لشقتي وسمعت صراخهن المدوي خلال عملية الختان.. وكان الفاعل "داية" وظلت إحداهن تعالج من التهابات مزمنة، وحمي.. ولزمت المستشفي لأكثر من شهر، ولا أدري مصيرها بعد ذلك.. حيث قيل لي كلما سألت عنها إنها ذهبت ل"البلد"! كما استمعت إلي حكايات لنساء أجريت لهن تلك العملية.. ومهما كانت آلامهن التي يتذكرنها، فإن "الحفرة" النفسية التي سببتها تتجاوز بكثير تلك الاَلام، ولن تمحي إلا مع الوفاة. إن مواجهة هذه الظاهرة ظلت خافتة، وأكثر من يتصدي لتلك المواجهة ومقاومة الختان هن النساء.. وللأسف الشديد، فإن حافظة الموروث والتقاليد بجمالها وببشاعتها هن النساء في المجتمع، كما أن الجهود التي بذلت طوال السنوات الماضية ضعيفة.. ولم تستغل القنوات المحلية الموجهة للصعيد، ولمناطقنا الريفية لبث الوعي بخطورة هذه العملية علي صحة المرأة الجنسية والصحية. ولم تكن ظاهرة الختان والقضاء عليها من أولوياتنا الثقافية، وقد تعودنا من أهل السياسة أن يضحوا بمثل هذه القضايا لأن المجهود الذي يبذل لتغيير سلوك ثقافي واجتماعي خاطئ أكبر بكثير من ذلك المبذول في مواجهة وضع سياسي واقتصادي منقوص أو فاسد. وكان رجال السياسة معارضة وحكومة يحسبون معاركهم بالورقة والقلم، مكاسبها وخسائرها، وينسحبون من المعارك التي قد تضطرهم لمواجهة رجال الدين المتشددين الذين بدورهم يستغلون الوضع وحالة الجهل والتخلف للخلط، عن سوء نية أو حتي حسن نية، وكشف حساب تلك المعارك لن تجلب قضية بدور وغيرها إلي مقدمة أولويات هؤلاء المتعلمين المزيفين. وحان الوقت للتخلص من رعشة اليد، ورعشة الفكر، والتقدم بمشروع قانون لمجلس الشعب يجرم عملية الختان، فما لا تغيره عقولنا بالتنوير والتوعية، يمكن أن تغيره قوة القانون!