إلي أي حد يمكن للذاكرة أن تحمل آلاما قديمة؟ سؤال يطاردني هذه الأيام بمناسبة اقتراب ذكري الخامس من يونية، والتي أراها نكسبة بعيون من أصروا علي محو اثارها، كان لهم شرف الثقة في المصريين حين أسسوا جيشا من مليون متعلم. وأري الخامس من يونية هزيمة بعيون من أرادوا محو كل ما قبلها من محاولات لزيادة التنمية من درجة صفر إلي درجة ستة وسبعة من عشرة من الدخل القومي، وهو الرقم الذي وصلت إليه تنمية مصر في عام 1967. وإذا كنت أتحدث عن نكسة أو هزيمة يونية، فذلك لأنها وقعت في منتصف عمري تماما، حيث كنت في السابعة والعشرين أيامها، وكنت أملك من حيرة الشباب فوق ما يتخيل احد وكنت املك أيضا الثقة في المستقبل فوق ما يتخيل احد. ولكني فوجئت بحكاية إغلاق خليج العقبة ولم افهم مغزاه الاستراتيجي، وكان الصديق الكبير احمد حمروش هو رئيس تحرير روزاليوسف في ذلك الوقت، وهو من قال لنا نحن المحررين الشباب ان اغلاق خليج العقبة يعني الحرب لا محالة. كنت قلقا علي الاصدقاء الموجودين في اليمن يقاتلون ضد التخلف في حرب رأيت أنه ليس لنا فيها ناقة أو جمل، ولكن رآها بعض ممن يفهمون في الأمن القومي وسيلة لحماية حدود القومية العربية من اقصي الجنوب وحتي جبال الأوراس في الجزائر. وكنت مندهشا للغاية من وجود تجارة للمراوح الكهربائية والسجاد الألماني والنجف الكريستال، وكله قادم من يأخذون اجازات من ميدان القتال في اليمن، وفي نفس الوقت كان لي صديق طفولة عاد من اليمن علي كرسي متحرك، لأن رصاصة أصابت عموده الفقري. ولأن المسألة كانت "فوضي في الحلم وفوضي غير محدودة في الواقع "لذلك قررت فور انتهاء الحرب ان ادرس من جديد واقع كلمة "استراتيجية" وحقيقة كلمة "قتال". ولأني واحد ممن احبوا جمال عبدالناصر، وواحد ممن افتقدوا تقدير المشير عامر، لذلك كنت اثق أن من مسئولية جمال عبدالناصر ان يتخلص من عبدالحكيم عامر، الذي عشنا زمنا نرهب طيبته التي تتحول إلي قسوة غير محدودة فمن الطيبة التي تصل إلي حد السذاجة إلي الوحشية التي تتمثل في السجن الحربي، دار المزاج الشخصي لشاب مصري شارك في 23 يولية وأهدي وطنه هزيمة مازلنا ندفع ثمنها حتي كتابة هذه السطور، وسببها الأساسي هو وضع فكرة "أمن القيادة" فوق "أمن الوطن". وكلما جاء يونية قرأت في التذكارات تفاصيل غاية في الألم لا يمكن أن نحمل عبدالحكيم عامر بمفرده أسبابها، ولكن كان علي عبدالناصر مفجر الامل والارادة في المنطقة العربية أن يتحمل نصف المسئولية. أما نحن المصريين فقد دفعنا الثمن من دماء الابناء الذين ماتوا في الصحراء ونال من عادوا شرف اعادة بناء القوات المسلحة وحرب الاستنزاف وصولا إلي اكتوبر 1973. تذكر الالم في كل يونية يعيد السؤال إلي التذكار" هل أمن القيادة فوق أمن الوطن؟". وتأتي الاجابة أن أمن القيادة يأتي دائما حين تضع أمن الوطن فوق كل الاشخاص مهما كانوا، حتي ولو كان منهم من يملك صداقة في عمق صداقة عبدالحكيم عامر وجمال عبدالناصر. رحم الله الجميع ووقانا شر المودة التي تخفي أنيابها في طيات كلمة "الصداقة".