هل تبدأ إدارة جورج بوش بإعادة ترميم استراتيجيتها الهجومية المتهالكة دولياً و"شرق أوسطياً" بعد فوز مرشح تيار "المحافظين الجدد" نيكولاي ساركوزي بالرئاسة الفرنسية؟ المؤشرات العامة والسريعة ترجح هذا الاحتمال. خطاب ساركوزي في مناسبة "النصر" أوجز إشارات بهذا الاتجاه حين أكد أن الولاياتالمتحدة تستطيع الاعتماد علي فرنسا في سياستها. وجاءت ردة فعل واشنطن مرحبة بهذا التوجه المبدئي. فإدارة بوش تمر في فترة صعبة ناتجة عن تحولات طرأت علي الشارع الأمريكي ودافع الضرائب بشأن الحرب علي العراق. وهذه الإدارة كانت تنتظر "الحدث السعيد" في باريس لتنعش بعض الآمال التي كادت تغيب عن الأفق بسبب مواقف الكونجرس الأمريكي والحزب الديمقراطي، وهي مواقف رافضة لسياسة الإدارة. "الحدث السعيد" يحتاج إلي وقت ليتبلور في خطوات مشتركة بين الطرفين. فالدول التي تعتمد المؤسسات تحترم المصالح ولا تؤسس سياستها علي أساس الأشخاص والشخص. فالسياسة عادة هي نتاج المصلحة وتقاطع المصالح وتبادلها. والمسألة الشخصية مهمة ولكنها تعتبر ثانوية في العلاقات الدولية واحترام المصالح. فالرئيس المنتخب لا يستطيع الانقلاب علي الدولة وأخذها إلي حيث يشاء دون قراءة للمصالح العامة ومدي تأثير السياسة علي المصالح العليا. وهذا الأمر يفترض من فرنسا إعادة تقييم علاقاتها مع أمريكا ثم تقدير العواقب والسلبيات وبعدها يتم الانتقال من موقع المشاطرة إلي الانسجام. وكل هذه الخطوات المحتملة ليست شخصية وإنما سياسية ومصلحية. وساركوزي الذي وصل إلي الرئاسة تم اختياره من قبل مؤسسات الدولة لأسباب تعكس تحولات يراد لها أن تقود الاقتصاد وتعيد هيكلته وفق استراتيجية تختلف عن تلك التي اعتمدها سلفه جاك شيراك. الأمور الشخصية مهمة في رفع نسبة الاهتمام بهذا الملف أو ذاك ولكنها ليست أساسية في تقرير مصالح الدولة العليا. فالدولة هي صاحبة القرار وليس الرئيس. فالرئيس بملك صلاحيات ويتخذ قرارات ويستخدم حق النقض "الفيتو" كما فعل بوش حين عطل خطة الكونجرس بوضع جدول للانسحاب من العراق. ولكن الرئيس لا يملك حق التفريط في مصالح الدولة وتوريطها في حسابات شخصية. لذلك يرجح أن تأخذ المتغيرات الفرنسية فرصتها الزمنية حتي تلتقي المصالح مع أمريكا علي قواعد مشتركة تعيد رسم خريطة جديدة للتحالفات الدولية و"الشرق أوسطية". كلام ساركوزي عن أن الولاياتالمتحدة تستطيع الاعتماد علي فرنسا يعتبر إشارة واضحة تدل علي أن الرئيس الجديد لن يشاغب علي الاستراتيجية الأمريكية بل إن واشنطن يمكنها استخدام باريس لتمرير سياستها. وهذا الكلام يكفي لتوضيح الكثير من الخطوط العامة التي يمكن ترميمها بعد أن خرج شيراك من قصر الاليزيه. هناك الكثير من النقاط الخلافية بين فرنسا وأمريكا وستبقي تلك النقاط الخلافية موجودة ولكن أسلوب ساركوزي في التعامل معها وفق برنامج أولويات سيتغير عن أسلوب شيراك. فأولويات ساركوزي تختلف عن أولويات شيراك. فالأخير مثلا كان يراهن علي قوة الاتحاد الأوروبي كساحة دولية تتوازن مع نفوذ أمريكا وقوتها بينما الأول لا يري في أوروبا قوة موازية وإنما مساعدة ومتحالفة. وشيراك عارض الحرب علي العراق وسخر مراراً من نتائجها وحذر من تكرارها بينما ساركوزي يعتبر مسألة الحرب نقطة خلافية تجاوزها الزمن ويمكن البناء عليها لتأسيس سياسة "شرق أوسطية" مشتركة. هاجس أمن لبنان ووحدته والمحافظة علي استقراره ونموذجه كانت يعتبر من أولويات شيراك بينما ساركوزي يضع أمن "إسرائيل" واستقرارها وموقعها ودورها فوق كل اعتبار لبناني أو فلسطيني. هذه الأولويات الساركوزية مريحة للسياسة الأمريكية. وهي تساعد إدارة واشنطن المتهالكة علي إعادة ترميم استراتيجيتها الهجومية في ساحات العراق وفلسطين ولبنان. مثلا وقفت فرنسا الشيراكية بالمرصاد مرارا لمنع وضع اسم حزب الله علي لائحة المنظمات الإرهابية في الاتحاد الأوروبي، ويرجح أن ساركوزي المؤيد ل "إسرائيل" لن يعترض علي المحاولة إذا عزمت دول الاتحاد علي طرح هذه المسألة مجدداً. مقابل موضوع حزب الله هناك مسألة "المحكمة ذات الطابع الدولي" واختلاف توجهات ساركوزي عن شيراك بشأنها. شيراك يعتبر "المحكمة" من أولوياته بينما ساركوزي يري فيها من الملفات التي يمكن المفاوضة عليها. وهذا التعارض في أولويات الملفين يريح واشنطن. فإدارة بوش أيضا تضع أمن "إسرائيل" وسلاح حزب الله علي رأس قائمة الأولويات ثم يأتي ملف المحكمة بعدهما. وهذا يعني أن لبنان ينتظر في الأسابيع المقبلة توجهات جديدة وغير متوقعة أو محسوبة من القوي السياسية التي تتجاذب الساحات الأهلية في لبنان. مثلاً إذا اتفقت باريس مع واشنطن علي أن الأولوية لأمن "إسرائيل" وسلاح حزب الله فمعني ذلك أن الضغوط الدولية ستمارس مجددا علي الدولة اللبنانية بذريعة عدم تنفيذها للقرارين 1559 و،1701 وبالتالي ستؤدي الضغوط المتجددة إلي رفع درجة عدم الاستقرار الداخلي في لبنان. وأيضاً إذا اتفقت باريس مع واشنطن علي أن مسألة "المحكمة" لا تحتل موقع الأولوية فمعني ذلك أن التحالف الدولي الجديد لن يمانع في التفاوض مع القوي الإقليمية وخصوصا دمشق لإعادة قراءة أو مراجعة هذا الملف الحساس. ومعادلة المحكمة مقابل السلاح غير مستبعدة في السياق المذكور إذا كان أمن "إسرائيل" يحتل موقع الأولوية في اهتمامات ساركوزي بوش الثنائية. وردة فعل زعيم "الليكود" المعارض بنيامين نتنياهو علي فوز ساركوزي بالرئاسة تعتبر إشارة واضحة علي معالم طريق يرجح أن ترتسم خطوطه في الأسابيع المقبلة. فنتنياهو المستفيد الأول إسرائيليا من "اخفاقات" حكومة إيهود أولمرت والمرشح الأول للفوز بالانتخابات إذا جرت في هذه الفترة تعامل مع نتائج الرئاسة الفرنسية بسعادة لا تقل عن سعادة واشنطن إذ اعتبر ساركوزي "صديق إسرائيل يمكن أن يصغي إليه العالم العربي. وهو رجل يري مصالح فرنسا من زاوية أخري. وانتخابه خير لإسرائيل وللعلاقات الفرنسية الإسرائيلية". وكلام نتنياهو الذي صرح به بمناسبة انتخاب ساركوزي يرجح احتمال عقد صفقات مع "عالم عربي" يصغي إليه لإعادة جدولة أولويات تضع أمن "إسرائيل" علي رأس القائمة والمحكمة في آخر اللائحة وبينهما يأتي موضوع التفاوض الإقليمي علي سلاح حزب الله. وعموما.. فإن اختلاف أولويات فرنسا في عهد ساركوزي سوف يشكل "الحدث السعيد" لإدارة بوش المتهالكة دولياً و"شرق أوسطياً".