كلمة "الاخفاقات" توجز العناوين الكبيرة لتقرير "اللجنة الحكومية لفحص مجريات حرب لبنان الثانية" فالكلمة تؤشر علي مجموعة عناصر اعتبرت لجنة "فينوغراد" انها السبب وراء فشل العدوان الأمريكي الصهيوني علي لبنان في الصيف الماضي. فاللجنة حملت في تقريرها المرحلي رئيس الحكومة إيهود أولمرت ووزير الدفاع عمير بيرتس ورئيس الأركان دان حالوتس مسئولية "الفشل الذريع" في إدارة الحرب، واتهمتهم بالتهور في اتخاذ القرار وإساءة التقدير واستسهال المعركة وعدم وضوح الرؤية والتردد والفوضي وعدم التنسيق وضعف الاستعداد وغيرها من ملاحظات تشكل في مجموعها لائحة اتهامات وهي كافية لزعزعة الحكومة وتفكيك ائتلافها الحاكم. الخلاصات التي توصل إليها تحقيق لجنة "فينوغراد" لن تمر دون محاسبة داخلية وتداعيات سياسية علي المستويين الحزبي والرسمي. حزبيا بات من المرجح أن يستقيل وزير الدفاع من الحكومة تاركا المقعد للرئيس الجديد لحزب "العمل". فالحزب الذي ينتمي إليه بيرتس يعتبر من المؤسسين للدولة العبرية وساهمت قياداته التاريخية في رسم الخطط وبناء المستوطنات وقيادة حروب الاحتلال والاقتلاع والتهجير والاعتداء علي دول الجوار العربية. هذا الحزب الذي اتهمت قيادته سابقا ب "التقصير" خلال حرب أكتوبر 1973 بدأ فعلا منذ تلك الفترة بالتراجع التاريخي عن موقعه القيادي التأسيسي تاركا الساحة السياسية للقوي الأكثر تطرفا والمتنافسة علي وراثة المسئولية الرسمية. وعلي القياس المذكور سيلجأ حزب العمل إلي إعادة هيكلة مؤسساته وترتيبها لاستيعاب التغيير الداخلي وانتخاب قيادة بديلة يرجح ان يقودها إيهود باراك صاحب التجارب في خوض المعارك العسكرية وتنظيم الغارات والاغتيالات في لبنان وتونس ويوغندا. بعد بيرتس يرجح أن يستقيل رئيس الحكومة أولمرت زعيم حزب "كاديما" الذي أسسه إرئيل شارون حديثا وقبل أسابيع من انهيار صحته ودخوله "غيبوبة" لم يخرج منها حتي الآن. حزب "كاديما" يختلف عن "العمل" فالأخير يمتلك تجربة تاريخية وسيرة سياسية رفعته إلي الأعلي ثم انتكس بعدها علي إثر "التقصير" في حرب أكتوبر. "كاديما" حديث التأسيس وهو يتألف من تشكيلة سياسية اجتمعت روافدها من أحزاب مختلفة في تكوينها الأيديولوجي ولكنها اتفقت علي مجموعة أهداف انتخابية مرحلية. ومثل هذا النوع من الأحزاب لا قيمة تاريخية له سوي أنه مجرد محاولة لتجميع القوي ضمن توازنات فرضتها شروط انتخابية موضعية. وبسبب هذا الخلل البنيوي يرجح أن يتفكك "كاديما" بعد استقالة أولمرت أو علي الأقل سيصاب الحزب بحال من "الغيبوبة" تشبه وضع مؤسسه شارون. هناك إذاً تداعيات كثيرة ستشهدها حكومة أولمرت بعد صدور التقرير المرحلي لتحقيق لجنة "فينوغراد". فأولمرت سيغادر موقعه مهما حاول التهرب من المسئولية وهناك شبه اجماع في "كاديما" يضغط عليه للاستقالة حرصا علي سمعة الحزب ومنعا لانهياره الشامل وغيابه عن المسرح السياسي الإسرائيلي. وبيرتس يرجح أن يستقيل من منصبه قبل أن يعقد حزب العمل مؤتمره السنوي في الشهر الجاري، وسيقوم بدوره في المحاسبة وإعادة تقييم التجربة وخصوصا تحالفه الانتهازي مع "كاديما". يبقي نائب الرئيس شمعون بيريز وتلك المجموعات الحزبية المتخالفة في الحكومة. بيريز العجوز يعتبر تاريخيا من جيل المؤسسين وهو لعب سلسلة أدوار متناقضة في حياته السياسية ونجح مرارا في التلون والتكيف والتهرب من تحمل مسئوليات الفشل. وهذا الأمر يبدو أنه نجح فيه بعد أن اجتهد في الابتعاد عن واجهة قيادة المبادرات خلال فترة العدوان علي لبنان. وبحكم كونه من المؤسسين للدولة ومن قادة حزب "العمل" السابقين ومشاركاً في تأسيس "كاديما" ينتظر أن يتولي مسئوليات مؤقتة لإنقاذ الحكومة من الانهيار بعد مغادرة أولمرت موقعه. كذلك يرجح أن تستفيد وزيرة الخارجية من الفراغين الحزبي والرسمي لتحتل موقع القيادة في "كاديما" وفي الحكومة إلي جانب بيريز. أما المجموعات المتخالفة في الائتلاف الحكومي فهي تضم تشكيلة من الانتهازيين والفاسدين والمتطرفين والمزايدين وكلهم وجوه لا تعكس ذاك التمثيل السياسي بقدر ما هي مجرد أرقام تحتاج إليها أي حكومة تطمح لكسب غالبية في مقاعد البرلمان. وتداعيات تحقيق لجنة "فينوغراد" لن تقتصر علي الحكومة وتحالفاتها المتشكلة من مجموعات حزبية، وإنما يرجح أن تذهب بعيدا في تأثيراتها علي مزاج الناخب الإسرائيلي واختياراته السياسية والأيديولوجية. فإعادة هيكلة الحكومة لن ترد علي تلك الأسئلة التي طرحتها لجنة التحقيق في تقريرها المرحلي. كذلك إعادة هيكلة الأحزاب وتحالفاتها الفوقية لن تكون كافية للإجابة عن مجموعة نقاط تمس الأمن القومي ومستقبل "الدولة". الإعادة إذاً لن تقتصر علي المستويين الرسمي والحزبي وإنما يرجح أن تمتد لتضرب في أسئلتها العمق الاستراتيجي للدولة وموقعها ومكانتها وقدراتها مضافا إليها احتمالات التحول في التوازن الإقليمي في حال شهدت المنطقة متغيرات دولية غير متوقعة أو محسوبة في الميزان العسكري. هذه الجوانب الكبيرة تجنب تحقيق "فينوغراد" الرد عليها وتهرب من معالجتها، لأنها أساسا تتجاوز حدود المحاسبة الموضعية وصلاحيات اللجنة ومسئولياتها. إلا أن حزب "الليكود" المعارض الذي يعتبر المستفيد الأول من حرب الاخفاقات أخذ يعيد تشكيل نفسه للهجوم المعاكس بعد أن تلقي ضربة قاسية من قائده السابق شارون. فشارون انشق عن حزبه حتي يتجنب المواجهة وتحمل المسئولية التنظيمية. وتهرب من ملاحقة حزبه بإعلان مغادرته وتأسيس حزب بديل يخضع مباشرة لأوامره وتوجيهاته، إلا أن مرضه أورث هذا الائتلاف الانتخابي لقيادة تفتقر إلي الحنكة والتجربة ولكنها مطمئنة لتحالفها مع واشنطن ودعم إدارة جورج بوش لها. هذا الاطمئنان بدأ يهتز الآن لأكثر من سبب. الأول ان إدارة بوش تعاني من ضغوط داخلية فرضتها اخفاقات الحرب علي العراق. والثاني ان رئيس "الليكود" بينيامين نتنياهو أخذ يستعد لخوض تجربة سياسية ثانية بعد خروج القيادات التاريخية المنافسة له من الحزب. والثالث ان "الليكود" تجاوز في ملاحظاته النقدية حدود صلاحيات لجنة "فينوغراد" وأخذ يطرح أسئلة نوعية تتصل بالأمور الاستراتيجية ومستقبل الدولة تمهيدا لتجميع الأصوات وتقريب موعد الانتخابات. تداعيات كثيرة يتوقع أن تنتج عن تقرير لجنة "فينوغراد" وهي ستشمل إعادة هيكلة الحكومة وأحزاب الائتلاف وصولا إلي تعديل توازنات انتجتها الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة. إلا أن السؤال الكامن وراء ما بعد الانتهاء من التحقيقات والمحاسبات والتعديلات والتغييرات يبقي هو المتعلق بالمقصود من كلمة "الاخفاقات". فهذا الجانب المسكوت عنه لم توضح خلفيته اللجنة حتي الآن. وهذا الدمار والتحطيم والحرق الذي أصاب لبنان خلال العدوان الأمريكي الصهيوني في الصيف الماضي أوجزته لجنة التحقيق الإسرائيلية بكلمة "اخفاقات". فإذا كان كل هذا يعتبر "اخفاقات" فما هي إذاً معايير "النجاحات" التي تعتمدها اللجنة لتوضيح الجانب الآخر من العدوان؟ إن عدم تطرق اللجنة إلي تحديد المعايير المقصودة يكشف بوضوح عن مخاطر الأيديولوجية الصهيونية في نظرتها للمنطقة وما يتضمنه المشروع الإسرائيلي من سياسة لا تقبل أن تكون النتيجة أقل من الدمار الشامل. "الاخفاقات" تعني نصف دمار ولجنة "فينوغراد" تحاسب أولمرت علي النصف الآخر الذي لم يدمر.