نحن تشغلنا اللحظة "الآنية". أي الآن فقط وليذهب الغد إلي الجحيم! هذه النظرة القاصرة المحدودة من سمات التخلف فهم في العالم الأول يفكرون في "الغد" أضعاف التفكير الآني. ومن هنا جاء علم المستقبليات أي "الرؤية المستقبلية" للقضايا ودلالته التقدم الفكري وعبور النظرة الآنية المحدودة قصيرة النظر. وفي مصر عدد قليل من الذين يتبنون الفكر المستقبلي، أعرف منهم الأستاذ راجي عنايت الذي قضي زمنا يبشر بهذا التفكير ويدعو له. ولا أدري لماذا كف راجي عنايت عن الكلام عن المستقبليات إلا إذا يئس من النداء وآثر الصمت، وهو أمر يؤسف له! إن دلالة ذلك أنه لا يهمنا سوي الاهتمام باليوم فقط ولا يعنينا الغد، وربما يتفق هذا مع الحس الشعبي حين يقول "عيشني النهاردة وموتني بكره". المهم أن "يعيش النهاردة، وليمت بكره!". في أمريكا وفي نيويورك رأيت مستعمرة كاملة للعلماء. بيوتهم وأحوال معيشتهم تجاور معاملهم البحثية. مهمتهم التفكير في الغد بمشاكله المتوقعة وحساباتهم القادمة. لا علاقة بينهم وبين الزمن "الآني"، فهم يركزون عقولهم في الزمن "الآتي". هذا هو العلم والتقدم والتطور. ولكننا نحب الثرثرة و"نعمل من الحبة قبة" ونحب الصياح والصراخ والتصفية "المعنوية" أي الضرب الشخصاني آفة الآفات. وتبحث عن المؤسسات العلمية المعنية ببكره فتجدها تفترسه بالعلاوات والترقيات والانتدابات. ويضيع الجهد في هذه "المزايا" الزائدة. ولا اعتقد أن المناخ العلمي الذي يعمل فيه العلماء، مناخ صحي ومثمر ومحفز للإبداع لأن الصراعات الصغيرة تستنفذ الأعصاب والطاقة. وأبحث عن مؤسسات تهتم بالمستقبل. فأري المجالس القومية المتخصصة التي تضم خيرة العقول في مصر. وأجد بحوثهم في كل الميادين لا ترحب بها السلطة التنفيذية وتوضع البحوث فوق الأرفف. ولهذا فقد العلماء الثقة في جدوي البحث الشاق. ومازالت المجالس القومية تصرف المكافآت الشهرية لأعضائها ومازال الأمل معقودا علي هذه العقول في استشراف الغد والمستقبل والزمن الآتي.. فنحسب حسابه دون أن يفاجئنا! الغريب أن احصاء سكان مصر يحرضنا علي الرؤية المستقبلية ولكننا لا نهتم. انني أتصور ولعلي حالم أن المناقشات الملتهبة داخل البرلمان تخص قضايا التعليم وإذا كانت هناك مشكلة ما في الصحة فلنتركها لرجال النيابة والقضاء ونهتم نحن بمستقبل أولادنا وأحفادنا ولكننا نستعرض قوة مزيفة ونحن الخاسرون. متي نفيق من هذا الاغماء ونترك الشخصيانية وتصفية الحسابات وراء الكواليس؟ إن طبيبا مرموقا هو الأستاذ الدكتور جمال جوردن يكتب في الصحف عنوانا واحدا لمقالاته الثرية التي امتدت حتي الآن إلي سبعة أسابيع العنوان واحد ويتكرر "بالابتدائي والإعدادي نستعيد مجد بلادي". كنت اتمني المشاركة الأمينة مع الرجل ونشر مناقشات حول هذا الرأي. فالمقال يخاطب أصحاب القرار الذي يؤكد صاحبه اننا قادرون علي استعادة مجد مصر بتعليم جاد لا يؤدي إلي تسطيح الخريجين من الجامعات. انه يري أن تأسيس التعليم من الابتدائي والإعدادي شديد الأهمية لأنه "الطبقة الخرسانية" للتعليم، والذي قد أضحي الآن بمجاميع تثير الدهشة! أراد جمال جوردن الطبيب أن يكتب روشتة للتعليم الابتدائي والإعدادي وهي روشتة للزمن الآتي ولم يفكر في أنفلونزا الثانوية العامة التي تظهر أعراضها علي البيت المصري كل ما اقتربت مواعيد الامتحانات! هل اهتم أحد تحت قبة البرلمان بصيحة جمال جوردن؟ الإجابة: لا! ربما يعتقدون أنه يهذي. أما الاهتمام بقضايا الزمن الآني ولست أقلل من أهميتها فهي في الصدارة وتجور علي اهتمامنا بالزمن الآتي.. وهو خطأ حضاري سندفع ثمنه. إننا بحاجة إلي ثقافة الزمن الآتي لنحصد التقدم وإلا جلسنا علي رصيف العالم نتسول الاهتمام.