يتساءل المرء كثيراً لماذا حققت دولة ما تقدماً واضحاً وعجزت دولة أخري عن ذلك؟ ولقد حار الباحثون واجتهدوا كثيراً في البحث عن أسباب ذلك، وقدموا العديد من الإجابات، كل منها يحمل عنصراً أو آخر من العناصر الدافعة للتقدم، مثل السلوك الإداري، الحزم والانضباط، الطابع القومي للمجتمع، توافر الموارد الطبيعية، توافر الموارد البشرية، وغير ذلك من العوامل. ولكن لو أردنا أن نختصر الأسباب والعوامل جميعا في عامل واحد، فيمكن القول إن هذا العامل هو القيادة. ومن هنا اجتهد العلماء والباحثون في تحليل الشخصية الفردية للقائد ودوره في المجتمع، ورأي البعض ان القائد هو شخصية كارزمية فريدة، في حين رأي البعض الآخر أن القائد يرتبط باللحظة الزمنية المعنية في تاريخ الشعوب، ورأي فريق ثالث أن القائد يرتبط بظروف سياسية معينة، وفي هذا الإطار كله يأتي كتاب "الإنسان والمجتمع مع تطبيقات في علم النفس الاجتماعي" للأستاذ الدكتور محمد شفيق ليملأ فراغا علميا في الأدبيات الخاصة بالارتباط بين القائد والمجتمع، والكتاب يقع في حوالي 400 صفحة، وينقسم إلي سبعة فصول تحمل العناوين التالية: السلوك الاجتماعي وديناميات الجماعة، التنشئة الاجتماعية، الدوافع الاجتماعية، الاتجاهات الاجتماعية، السلوك الإنساني، تطبيقات في علم النفس الاجتماعي "فن القيادة". فضلا عن قائمة طويلة بالمراجع باللغتين العربية والإنجليزية، وملاحق تضم عدة استبيانات للرأي حول مختلف الموضوعات التي تناولها الكتاب، وكيفية قياس الاتجاهات المختلفة لدي القيادات المتنوعة، بل والأفراد علي اختلاف مواقعهم حيث تتضمن تحليلا للاتجاهات الشخصية والسلوكية ومدي تفاعل الفرد في المجتمع. ولعل ما يلفت النظر في هذا الكتاب ثلاثة أمور: الأول: العنوان الذي اختاره الباحث للكتاب "الإنسان والمجتمع" فهو يركز علي البعد الإنساني وهذا بخلاف العديد من المؤلفات التي تحمل عناوين الفرد والمجتمع، بعبارة أخري هو ينظر للبعد الإنساني في الفرد، وهذا البعد أحيانا يغفل عنه كثير من الباحثين. الثاني: إن الباحث لم يقدم دراسة نظرية بحتة بل قدم تطبيقات عملية علي الحالة المصرية في مواقع عدة من العمل وبخاصة في القوات المسلحة حيث حلل سمات الشخصية المصرية، وصلة ذلك وتأثيره علي طبيعة القائد المصري سواء من حيث الجوانب الإيجابية أو الجوانب السلبية. كما عالج الخصائص النفسية للقائد وما يتعرض له من ضغوطات تتصل بالحرب النفسية بأساليبها المتعددة. الثالث: إن الكتاب يتسم بالسلاسة في لغته فلا يشعر المرء بالملل أو السأم وهو يقرأه، رغم أن موضوعاته المتصلة بعلم النفس وعلم الاجتماع تكتب أحيانا بلغة معقدة وصعبة فلا يستطيع غير المتخصص إدراكها واستيعابها إلا أن الدكتور محمد شفيق قد اتبع منهجاً مختلفا فجعل كتابه ميسراً للقارئ العادي غير المتخصص. وما يهمني إبرازه هنا هو أن مصر في هذه المرحلة الدقيقة من تطورها السياسي والاقتصادي والاجتماعي في حاجة ماسة لتدريس مفاهيم ونظريات القيادة بمستوياتها المختلفة، ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن الفارق الجوهري بين تجارب الأمم والشعوب هو فارق في مدي توافر القيادات والكوادر علي المستويات المختلفة وفي المجالات المتعددة. ونسوق بعض النماذج للتدليل علي ما ذكرناه. فالصين استطاعت أن تنطلق في معراج التقدم عندما تغيرت قياداتها من حزب الكومنتانج إلي الحزب الشيوعي بقيادة ماوتسي تونج، وشوان لا، ثم دخلت مرحلة مختلفة من التقدم الاقتصادي بقيادة دنج شياوبنج. وسنغافورة حققت معجزة التقدم مع قيادة لي كوان يو، وماليزيا وغيرها. ولا ينبغي تصور أن القيادة تختص بشخص أو بمستوي معين، فالقيادة درجات ومستويات ولا يستطيع الفرد بذاته وبمفرده أن يحقق معجزة، ولكن توافر القيادات في مختلف المستويات هو الذي يضمن التقدم ويؤدي إلي تحقيق المعجزة، وإلا فإن القائد الفرد ما لم تتوافر له كوادر في مستويات متعددة سوف تحبط جهوده، ولهذا قيل عن بعض الأنبياء ان قومهم أضاعوهم، أو ان قائدا ما خرج وظهر في غير أوانه، ولعل نموذج جورباتشوف كقائد هو من النماذج التي أضاعت دولتها وأدت إلي تفكيكها وضياع هيبتها. ومصر من ناحية أخري استطاعت تحقيق الكثير من الإنجازات سواء في قيام ثورة 1952 أو في حرب السويس التي حولت جمال عبد الناصر لزعيم عربي، أو حرب 1973 التي أظهرت كفاءة السادات كقائد، وفي مواصلة مسيرة العمل الوطني برزت خلالها قيادة حسني مبارك في تجنيب مصر ويلات الحروب التي تكررت في الماضي، وتجنب الوقوع في المطبات العديدة التي تعرضت لها عبر السنوات الماضية، ولكن مشكلة مصر البالغة الخطورة هي أنه كما يقال افتقادها لنوعين من القيادات. الأول قيادات الصف الثاني وهذا يجعل العمل مركزا في يد قيادات الصف الأول بما لا يحتمله المرء مهما كانت قدراته، كما انه سيؤثر سلبا في عدم تراكم الخبرات وعدم انتقالها من جيل إلي آخر. أما النوع الثاني من القيادات فهو قيادات الإدارة والعمل التنفيذي في المواقع المختلفة، ولهذا نجد كثيراً من الافكار الممتازة التي تطرح لا يتم تنفيذها أو لا تتم متابعتها. ومن هنا تبرز أهمية تدريس علم القيادة لجميع العاملين في الحقل العام بل والخاص، ويمكن من خلال ذلك اكتشاف قدرات الأفراد ودفعهم للقيادة ومن ثم تحقيق التقدم.