في مصر الآن حادث هام، معركة جنوبالوادي، ولكنه لا يلفت نظر المتحرشين سياسيا في وسط البلد، فالحادث حضاري يخلو من الصياح والصراخ ولا يحركه حزب أو أمانة سياسات، وتتعرض الصحف للحادث الحضاري بخبر وربما بصورة وعلي الشاشات يظهر تقرير مستور من باب التغطية الإخبارية! الحادث هو "تهجير" ثلاثة آلاف وثمانمائة أسرة (الأسرة الواحدة قوامها 6 أفراد علي الأقل)، تهجيرهم من قرية الجرنة في البر الغربي للأقصر إلي قرية الطارف الجديدة التي بنتها الدولة لبسطاء البر الغربي الذين يعيشون في ظروف بالغة التعاسة بين المقابر والزرايب والبهائم! والحادث يعتبر ثاني تهجير عاشته مصر، وكان تهجير النوبيين هو التهجير الأول، وتهجير أهالي الجرنة هو التهجير الثاني ولكنه تهجير منظم وليس عشوائيا. ملاحظتي هي اعتراضي علي كلمة تهجير وأفضل ان يقال انها عملية تطوير فالذي يحدث بالفعل هو عملية اصلاح وتطوير ونقل من حال إلي حال. وأنا أرقب باهتمام بالفعل هو عملية التطوير ومدي نجاحها وتحقيق أهدافها، اراقبها لأن لدي خلفية أليمة تعبر عن خطأ حضاري جري في الجرنة، فالمهندس الراحل حسن فتحي مهندس عمارة الفقراء كان قد بني "الجرنة الجديدة" وحين انتقل إليها أهل الجرنة لم يألفوا الحياة فيها.. واحرقوها! أحرقوها لأنها تمت وبنيت علي أسس هندسية لم تراع العادات الذهنية والنفسية لهؤلاء السكان، شعر سكان الجرنة أن الأوامر صدرت بالسكن في الجرنة الجديدة ولكن حياة هؤلاء البسطاء من الآباء والأجداد لا تتم بأوامر من أحد، فالحياة مجموعة طقوس معيشية لابد من احترامها. فمثلا لاحظ سكان الجرنة الجديدة (طبعة حسن فتحي) أنهم ينامون لأول مرة بعيدا عن بهائمهم(!) وهذه مصيبة، فناس الجرنة يتنفسون مع البهائم هواءً واحداً.. ! لاحظ أهل الجرنة أن أبواب البيوت لها (أكرة) لغلق الباب وهم ينامون في أمان تام، فخلعوا هذه الاكرة والقوها! وقد سجل الروائي فتحي غانم حكاية حريق الجرنة في رواية "الجبل" وتناولتها السينما وصورها التليفزيون في مسلسل درامي. الملاحظة المهمة أن القرية الجديدة (الطارف) لابد انها استفادت من درس الأمس، لابد انها اهتمت بالمصطبة أمام بيوت أهل الجرنة، فالمصطبة هي نموذج الحياة وعليها تتم الصفقات والبيع والشراء ورغبات الزواج والمصاهرة. وبدون المصطبة تصبح الحياة مقبضة، نعم إلي هذا الحد! ان الدكتور سمير فرج، رجل عسكري وفنان، صحيح أن المعادلة صعبة ان تتزامل العسكرية والفن ولكن هناك أمثلة لرب السيف والقلم، وقد بدأ سمير فرج ببطء ولكن ثبت العمل في بناء مدينة الطارف مراعيا العادات النفسية والطقوس الذهنية لأهل الجرنة وكان لابد للتطوير من ثمن. فالاصلاح في كل زمان ومكان له ثمن باهظ، لابد أولا من (التعويضات المالية) ولكن ذكريات الآباء والأجداد لها ثمن أكبر من التعويض، وواجه سمير فرج "مقاومة" و"تشبثا"" بالأرض، فبحث بعقله الهادئ المنظم من وسيلة "فعالة" لاقناع أهل الجرنة بالتخلي عن بيوت ملك الأجداد لابد من هدمها، حيث بنيت عشوائيا فوق مقابر أثرية لها قيمة ولم تكتشف بعد وقيل إن أهل الجرنة يعبثون أحيانا بمحتويات هذه المقابر ويبيعونها للسياح والدولة تريد السيطرة علي هذه الثروة الأثرية، واستطاع سمير فرج رئيس المجلس الأعلي للأقصر من الاستعانة برجل اقصري فاضل هو الدكتور أحمد الطيب العالم الأزهري الجليل لاقناع أهل الجرنة بقبول تعويض الدولة المجزي وقبول النقل و"التهجير" إلي مدينة الطارف، ونجح أحمد الطيب في مهمته حيث كان الحوار بينه وبين أهل الجرنة موضوعيا، ومن الملاحظات المهمة ان شباب الجرنة كانوا أكثر حماسا للنقل والتطوير أما الآباء والأجداد فكانوا متشبثين عاطفيا بحفنة ذكريات وبدأت الدولة في عملية الهدم.. ولكنها قبل ان تهدم كانت قد بنت الطارف وكان دور القوات المسلحة في عملية وضع خطة، والالتزام بالتنفيذ في موعد محدد هو الذي جسد الحلم وهذه ملاحظة بالغة الأهمية، فالحسم والربط والضبط في القوات المسلحة جعل من التنفيذ سيمفونية، ولو سار الأمر في المناقصات والمظاريف بأسلوب الدولة العادي لما بنيت الطارف. المهم أن عمليات النقل لبيوت الطارف ستتم خلال الاسابيع القادمة ويتوقع د.سمير فرج بذهن صاف ملاحظات سكان الطارف الجدد حيث إن كل "مشروع جديد يصاغ نجاحه في التطبيق" ويدرك ايضا أن "استيعاب التجارب السابقة" هو قناديل ضوء أمام صانع القرار.. ويفطن أيضا إلي أن القرية والمدينة الجديدة ليست بيوتا في العراء.. بل يجاورها السوق ومخبز العيش والمدرسة والمستشفي.. لتأخذ الحياة دورتها الطبيعية. إن "نقل" و"تطوير" الجرنة إلي الطارف، حادث حضاري آمن ويبدأ بعده التنقيب الأثري لاكتشافات مهمة كانت مخبوءة.