منير عامر أن تنتظم حياتك مع الأمل، هذا هو جوهر العمل اليومي في هذا المكان، ومن الغريب أن موقع المكتبة كان بالنسبة لي ملجأ عاطفيا قبل بنائها في أعوام ،1958 وكنت أصحب من أحب لنتسلل إلي هذا المكان كي يؤكد كل منا للآخر جدارته بحق الحب، كان حبا نقيا له أجنحة من أحلام هائلة تكسرت جميعها، ولكن ما جعل قلبي يطرب هو بناء مكتبة الإسكندرية في نفس الموقع. أضحك دائما مع د.اسماعيل سراج الدين، وأقول له "أرشحك لمنصب شيخ الأزهر أو رئيس هيئة كبار العلماء" ويضحك هو أيضا دون تعليق، كأنه ترك لي مهمة أن أعرف ما يهتم به، وما المهمة التي يري أن خلاياه تم تصميمها من أجلها، فهو كمعماري قرر أن يعيش حياته كي يهدم كل ما يشوه الحياة، ويدعو من يؤمن معه بأفكاره أن يشاركه فيها، لذلك لم يكن غريبا عليه - علي سبيل المثال - أن ينتبه مبكرا جدا لمشكلة المياه التي ستتحول إلي كارثة قادمة وأن ينادي عبر نقاش عالمي إلي أهمية أن تهتم الدول بمستقبل المياه فيها، فهي عنصر الحياة الأساسي بعد الهواء. واعتقد أني كلما ذهبت إلي مكتبة الاسكندرية يغمرني شعور جارف بأمنيات متعددة، لعل أهمها أن تكون المكتبة جامعة تكنولوجية، بمعني أن يلتحق بها شباب يتم اختيارهم كي يتواصلوا مع علماء العالم في انحاء المعمورة، وأن تكون هناك معامل افتراضية يتم تصميمها علي الكمبيوتر كي يحول دارسو الفيزياء علي وجه الخصوص إلي متعلمين عن بعد وعن قرب في نفس الوقت، وخصوصا أن اسماعيل سراج الدين قد امتلك جهازا يمكن أن يكون نواة لهذا المعمل الافتراضي، فضلا عن شرائه لثاني جهاز في العالم يمكن أن يطبع أي كتاب عالمي صدر حديثا في دقائق قليلة ما دام المشتري قد دفع ثمن النسخة، وهو أمر شديد الفاعلية خصوصا لراغبي المعرفة، فلا يكفي أن يكون عندنا تواصل عبر الإنترنت مع بقية أرجاء الكون، ولكن يمكن أن يكون هذا التواصل حميما مع المتميز من الكتب تلك التي ندفع فيها نحن القراء المحترفون عشرات الجنيهات كي تصلنا من بلادها. وفي اللحظة التي أعلن فيها اسماعيل سراج الدين هذا الخبر كنت أفكر في زوجة ابني المقيمة في واشنطن، وكان عندهم عشاء يحضره أصدقاء، واتصلت الفاضلة زوجة الابن بزوجتي كي تسألها عن طريقة طهي نوع معين من الطعام الشرقي، لحظتها قلت لزوجتي "الآن استطاعت الإنترنت ان تنهي غربة اسرة الإبن التي تعيش في المهجر، وتستطيع وصفات الطعام ان تنتقل شفهيا من بلد إلي آخر". وفكرت لحظتها في صديقي د.فؤاد بشاي ميخائيل الذي يرسل لي أي كتاب أطلبه ويصلني في عشرة أيام عن طريق البريد، الآن يمكن أن أقول لفؤاد بشاي شكرا، ستقوم مكتبة الاسكندرية بطبع الكتاب فورا لي بعد أن أدفع ثمنه. فكرت أيضا في أني أنا شخصيا ظللت أسدد لخزينة روز اليوسف مبلغ ستة آلاف جنيه ثمن مكالمات تليفونية من مصر إلي باريس اثناء أن كانت فتاة أحلامي تدرس هناك، ولم أكن أتحمل ألا أسمع صوتها مدة تزيد علي أسبوع، وهكذا شكرت العلم التطبيقي المسمي التكنولوجيا لأنها توفر علي العشاق فرص التلاقي بالصوت والصورة دون أن يتحملوا أكثر من ثمن مكالمة تليفونية من أي تليفون أرضي. وحين دخلت مكتبة الإسكندرية في السادسة من مساء يوم الاثنين الماضي، كنت واحدا ضمن العديد من المثقفين المصريين الذين شاركوا النرويج احتفالتها بمرور مائة عام علي وفاة هنريك إبسن، وشاهدت رأي العين حركة تزواج بين فنانين مصريين في عمر الزهور مع فنانين في نفس المرحلة من العمر قد جاءوا من النرويج كي يقدموا مشاركتهم في الاحتفال، هل أقول انها كانت مباراة في محاولة الكشف عن حقيقة نتجاهلها جميعا وهي ان حرية التعبير ليست مجرد حرية الصياح والثرثرة في الفاضي والمليان، ولكنها في الاساس حرية الابداع الفني في الأساس، ولعل ما ابدعه إبسن من مسرحيات عاش من أجلها حياة التشرد والجوع من أجل التعبير عن نفسه ما يؤكد أن رؤية المستقبل لا يجب ان تظل محصورة في الهتاف والتظاهر والغضب الأرعن، ولكن يجب ان تكون مصحوبة بالإصرار علي الابداع مهما كانت الظروف. هل أقول اننا نملك مشروع عازف بيانو عالمي هو سيف شريف محيي الدين الذي جعل المساء اكثر قدرة علي البهجة ونحن نسمع عزفه؟ هل أقول أن روح ابسن المتمرد الذي رفض ان يركن المجتمع إلي حالة من الركود فعبر عن ذلك من خلال المسرح ما جعله يرتفع إلي مصاف الكبار حتي أن برنارد شو قال عنه "انه يفهم ظروفنا الانسانية، ولا يحركنا كدمي مثلما فعل شكسبير"، وعلي الرغم من قسوة برنارد شو في هذا القول إلا أنه اصاب حين طلب من كتاب المسرح ان ينقلوا للبشر الظروف التي تجعلهم دمي يتحركون ضمن اطار مرسوم مسبقا. وحين صعد اسماعيل سراج الدين علي المنصة في صباح اليوم التالي كان يتحدث عن ابسن وكأنه واحد من المتخصصين بعمق في التذوق الفني، ارجعت ذلك إلي موهبته كمعماري، فبين المسرح والعمارة حالة من الترابط يصعب الفصل بينهما. ولكن المفاجأة هو وجود مؤتمر آخ