عندما تراجعت أسعار المواد الخام قليلا في مايو الماضي تصور كثير من المراقبين أن السوق يصحح نفسه بعد 4 سنوات من الارتفاعات السريعة.. ولكن الأسواق سرعان ما برهنت علي أن هذا التراجع الطفيف مجرد راحة قصيرة لالتقاط الأنفاس.. ففي 14 يولية سجل سعر برميل بترول غرب تكساس رقما قياسيا جديدا هو 78.40 دولار وبلغ سعر النيكل 26 ألف دولار للطن لأول مرة وحتي بعض السلع الزراعية لحقت أسعارها بهذا الارتفاع، فأسعار المحاصيل الغذائية زادت 40% منذ عام 2002 ووصل سعر زيت اللفت إلي مستويات لم يبلغها من قبل. وتقول مجلة "الإيكونوميست" إن بعض المحللين يعتقدون أن المستثمرين ساهموا في صنع هذه الارتفاعات حيث كان نشاطهم في أسواق المواد الخام ينطوي علي نوع من المضاربة فاستثمارات صناديق التحوط في أسواق الطاقة ارتفعت من 3 مليارات دولار عام 2000 لتصبح 90 مليار دولار في العام الماضي وذلك حسب أرقام وكالة الطاقة الدولية. ومع ذلك فهناك من الخبراء من يري أن ارتفاعات أسعار المواد الخام نتيجة طبيعية لدخول العالم في دورة غير عادية Super Cycle ترتفع فيها أسعار هذه السلع بدرجة أعلي ولفترة أطول من الدورات العادية المتكررة. ومن الواضح بالفعل أن الازدهار هذه المرة أطول من المعتاد وله أرباح غزيرة.. وفي تقرير أصدره بنك سوسيتيه جنرال الفرنسي عن خمس دورات لأسعار المواد الخام منذ عام 1975 قال البنك إن كل دورة استمرت 28 شهرا في المتوسط وارتفعت الأسعار فيها بنسبة 35%، أما الدورة الحالية فقد استمرت حتي الاَن 56 شهرا وتضاعفت خلالها الأسعار. ويري المحللون أن سبب هذه الدورة غير العادية عدم قدرة العرض علي ملاحقة الزيادة في الطلب، ففي الثمانينيات والتسعينيات عندما كانت أسعار المواد الخام منخفضة كانت شركات التعدين والبترول لا تستثمر كثيرا في البحث عن مناجم واَبار جديدة ولذلك لم تصنع هذه الشركات لنفسها طاقة إنتاج احتياطية.. ورغم أنها تسعي جاهدة الاَن لزيادة الإنتاج فإن الأمر يحتاج إلي سنوات حتي يحدث توازن معقول بين العرض والطلب. يضاف إلي ذلك أن نشاط جماعات الدفاع عن البيئة أصبح أكثر انتشارا وقوة عما كان عليه من قبل ويعتبر نشاطا معرقلا لسعي الشركات إلي زيادة الإنتاج في قطاعي التعدين والبترول.. إلي جانب أنه يزيد من تكاليف الإنتاج. وعلي جانب الطلب نجد أن العالم عموما والصين بشكل خاص تنمو بأكثر مما كان متوقعا وتستهلك كميات أكبر من المواد الخام.. ففي الأعوام الخمسة عشر الأخيرة زادت واردات الصين من المواد الخام عشرة أضعاف ما كانت عليه أو يزيد.. ويتوقع دويتش بنك أن يظل الطلب الصيني يزيد بنسبة 10% سنويا لمدة عقد قادم من الزمان.. وحتي الاَن لا يبدي الاقتصاد الصيني أي ميل حقيقي نحو تباطؤ النمو، فإجمالي الناتج المحلي في الصين زاد بنسبة 11% خلال النصف الأول من العام الحالي 2006 وذلك حسب الأرقام الرسمية الصينية التي أعلنت يوم 18 يولية الماضي. وهذا السباق بين الإنتاج الضعيف والاستهلاك المحموم يعني أن الطلب سيظل أقوي كثيرا من العرض لعدة سنوات قادمة. ومع ذلك تقول "الإيكونوميست" إن هذا المنطق يصعب تطبيقه أو تعميمه علي كل أنواع المواد الخام.. فالمعروض من السلع الزراعية يزيد عندما ترتفع أسعارها لأن الفلاحين يمكنهم زراعة المزيد من هذه السلع.. وإذا أخذنا الذرة كمثال فسنجد أنها تستخدم لأمرين أساسيين هما إنتاج علف الماشية أو إنتاج الإيثانول ومع زيادة الطلب عليها أخذت أسعارها تتصاعد، ولكن ذلك لن يستمر طويلا لأن المزارعين خاصة في الولاياتالمتحدة والصين يزيدون من إنتاجهم من الذرة، والأمثلة الأخري كثيرة. وعموما فإن هناك من يري وجود فقاعة في أسعار المواد الخام وأن هذه الفقاعة يمكن أن تنفجر في أية لحظة ومن هؤلاء فريدريك لاسيريه محرر تقرير بنك سوسيتيه جنرال فهو يري أن المخاوف المستقبلية بشأن تأثير النقص في العرض علي الأسعار مبالغ فيها وأن زيادات الأسعار ثمرة في جزء منها لنشاط المضاربين. ويقول لاسيريه إن سعر أي سلعة يجب أن يرتبط بتكلفة الإنتاج إلي جانب حجم المعروض منها بالنسبة للطلب عليها وباستخدام هذا المقياس يري الرجل أن سعر برميل البترول مقوم بأكثر من قيمته الحقيقية بنسبة 50% وسعر الزنك والنحاس أعلي أيضا بنسبة 40%.. وفي المدي القصير تلعب مستويات المخزون دورا في تحديد السعر وحتي باستخدام هذا المعيار يري لاسيريه أن النحاس مقوم بأكثر من قيمته الحقيقية بنسبة 148% والزنك بنسبة 122% والنيكل بنسبة 70% والبترول بنسبة 49%.. وفي ظل أوضاع من هذا النوع لا يمكن تجاهل تأثير الأزمات السياسية ودور المضاربين في رفع الأسعار وهذا واضح تماما في سوق البترول الذي يرتفع ويتراجع حسب مؤشر التوترات في الشرق الأوسط ومدي سخونة الأزمات فيه خاصة الأزمة الإيرانية.