أخيراً وبعد خلافات تواصلت علي مدي نصف قرن تخللتها حروب وأحداث ساخنة وقعت كل من المملكة العربية السعودية وجمهورية اليمن العربية الاتفاقية النهائية لترسيم الحدود بينهما. وفي هذا الإطار يأتي القرار الذي اتخذه المجلس الأعلي لحكام دولة الإمارات العربية باعتبار الاتفاقيات الحدودية المعقودة بين الإمارات السبع وأي دولة مجاورة قبل تأسيس دولة الإمارات في ديسمبر سنة 1971 هي اتفاقيات اتحادية. وفيما عدا الوحدات التي تمت في العالم العربي وبإرادات شعبية مثل الوحدة المصرية السورية التي أعلنت سنة 1958 ثم فشلت سنة ،1960 أو الوحدة اليمنية التي تمت بنجاح بعد صراعات ساخنة، فإن أية محاولات أو مزاعم حدودية كانت تواجه وبحسم وبإجماع عربي. فالدعاوي التي روجت لها بعض الأوساط العراقية سواء أيام حكم عبد الكريم قاسم في أوائل الستينيات أو أيام صدام حسين في أوائل التسعينيات بالنسبة للحدود مع الكويت ووجهت وبحسم في الحالتين، في الحالة الأولي كان الإجماع العربي رادعا كافيا، وفي الحالة الثانية كانت الإرادة الدولية مع الموقف العربي رادعا حاسما. وحتي بالنسبة للحدود العربية مع إسرائيل، وبالرغم من الصراع الساخن الذي مازال يحكم هذه الحدود، وبالرغم من كل التعقيدات والمناورات والنداءات الإسرائيلية المتصلة لأكثر من نصف قرن، إلا أن القرار "181" الصادر عن الأممالمتحدة سنة 1947 والذي يقضي بتقسيم فلسطين إلي دولة يهودية ودولة فلسطينية مع تحديد الحدود مازال هو الفيصل الشرعي والقانوني في ترسيم الحدود سواء بين إسرائيل وأراضي الدولة الفلسطينية المقترحة، أو بينها وبين الدول العربية المجاورة. ثم كان القرار 242 الصادر سنة 1967 والذي يطالب إسرائيل بالانسحاب من جميع الأراضي المحتلة والعودة إلي حدود ما قبل يونية سنة ،1967 وعلي هذا الأساس عادت سيناء ومعها طابا إلي الأراضي المصرية، كما انسحبت إسرائيل من الأراضي اللبنانية فيما عدا مزارع شبعا، ومازالت كل القرارات الدولية تلزم إسرائيل بالانسحاب من الجولان ومن جميع الأراضي الفلسطينيةالمحتلة. وقد كان من المعتقد أنه وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وصدور ميثاق سان فرانسيسكو للأمم المتحدة وكذلك المواثيق الدولية والإقليمية التي صدرت حول هذه القضية، فوضعت أسسا مستقرة أصبحت بمثابة القواعد الراسخة حينما اعتبرت ان الحدود التي اسفرت عنها الحرب العالمية الثانية هي حدود نهائية ومستقرة. وحتي بالنسبة للدول النامية والتي حصلت علي استقلالها في الخمسينيات والستينيات وفي مرحلة انهاء الاشكال الاستعمارية القديمة، فرض هذا المبدأ نفسه، بالرغم من ان بعضا من هذه الحدود كانت قد أقامتها الدول الاستعمارية نفسها، واحيانا بشكل تعسفي. وكانت الحكمة الكامنة وراء هذا القرار الذي استخدمته منظمة الدول الإفريقية الاتحاد الإفريقي فيما بعد وأخذت به أيضا كل المنظمات الدولية والإقليمية بما فيها الجامعة العربية ان فتح الباب لأية دعاوي قومية أو عرقية أو إقليمية لإعادة ترسيم الحدود سيغرق هذه الدول في مشاكل ونزاعات لا حصر لها تستنزف طاقتها وقدراتها البشرية والمادية بدرجة أكبر وأخطر. وقد كان هذا هو موقف منظمة الدول الإفريقية في صراعات الحدود الساخنة احيانا التي جرت ومازال بعضها يجري بين إثيوبيا واريتريا وبين تشاد وليبيا وبين كينيا وتنزانيا، كما ظل هذا هو الموقف الذي اتخذته جامعة الدول العربية سواء في علاقات هذه الدول بعضها البعض أم في علاقاتها الحددوية مع دول الجوار. وإذا كان هذا التقسيم الحدودي قد ظل سائدا ومستقرا كعرف وقانون دولي منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، إلا ان السنوات الأخيرة شهدت هزات عنيفة حول هذه القضية، فالانفجارات القومية، واحيانا العرقية والدينية، التي اجتاحت أوروبا والعالم بعد انهيار الاتحاد السوفيتي ودول المعسكر الاشتراكي في شرق أوروبا. قد أدت فيما أدت إليه إلي إسقاط الكثير من الحدود القديمة وإقامة حدود جديدة. فالاتحاد السوفيتي يتفتت وينقسم إلي 15 جمهورية مستقلة يعاد رسم حدودها ويجري الصراع والصدام فيما بينها، فهناك القتال الذي يجري بين أرمينيا وأذربيجان، والصراع بين روسيا وأوكرانيا حول جزيرة القرم والدراما التي حدثت في يوغوسلافيا والقتال الدامي الذي جري هناك بين الصرب وكرواتيا والبوسنة والهرسك وكوسوفو أعادته إلي الأذهان مرة أخري الصراعات الحدودية والتي كانت أحد الأسباب الرئيسية للحربين العالميتين الأولي والثانية. وبالرغم من انه أمكن التوصل إلي بعض الحلول والتهدئة في بعض صراعات الحدود الملتهبة والتي أدت إلي حروب في الماضي مثل الحدود الصينية الروسية التي أمكن التوصل إلي اتفاقيات بشأنها بين العملاقين الجارتين أدت إلي ترسيم الحدود وبشكل نهائي بينهما. كذلك الحدود الهندية الصينية التي كانت سببا في حرب بين البلدين في الستينيات والتي توصل فيها الطرفان اللذان يمثلان أكثر من ثلث العالم إلي اتفاقية في العام الماضي لانهاء صراع الحدود بل وإقامة تحالف استراتيجي بينهما. بالرغم من كل هذا إلا ان إلقاء نظرة أشمل علي صراعات الحدود المتجددة تشير بوضوح إلي وجود ارهاصات قوية لبراكين ظلت خامدة لفترات ثم بدأت تخرج دخانها المنذر بالحمم والخراب. فهناك اللومبارديون في إيطاليا رابطة الشمال والذين يطالبون باستقلال الشمال الإيطالي، وهناك الحركة الانفصالية في كندا والتي تطالب باستقلال إقليم كوبيك المتحدث بالفرنسية. ثم هناك ما هو أخطر من ذلك كله، وهو الانتعاش الملحوظ للحركات القومية ذات الطابع العنصري والحركات الدينية الأصولية التي لا تعترف بالحدود. إن تقييما موضوعيا وباحساس حقيقي بالخطر يبرز قضية الحدود الدولية مرة أخري كإحدي القضايا المهمة والقابلة للانفجار، حقيقة ان ما يجري حتي الآن هو تفتيت حدودي داخل كيانات كبيرة كانت قائمة والذي زاد من عدد أعضاء الأممالمتحدة من 150 دولة سنة 1970 إلي 192 دولة سنة 2006 كان آخرها دولة الجبل الأسود التي قررت الانفصال عن صربيا مؤخرا. ومعني ذلك ان شكل النظام الدولي الجديد الذي هو تحت التأسيس يفترض تجاوز أي محاولات للهيمنة أو السيطرة من جانب دولة واحدة، والتمسك بالمضمون الإنساني العادل لمفهوم الشرعية الدولية الذي يقوم علي احترام استقلال وسيادة أي بلد في إطار حدوده ليعترف بها دوليا وإدانة أي حسابات خاطئة تقوم بها قوة أو دولة تعتقد انها الوحيدة صاحبة الحق في تفسير وتطبيق الشرعية الدولية ويفصلها وفقاً لمصالحها الخاصة. والبديل الوحيد للتمسك بالقيم الثابتة حول الحدود هو ان يتحول العالم إلي فوضي دولية يدفع الجميع ثمنا غاليا لها.