حينما أعلن الرئيس البوليفي الجديد ايفومورا ليس تأميم شركات البترول في بلاده قامت الدنيا ومازالت قائمة في الولاياتالمتحدةالأمريكية. وأعلن ممثلون عن الشركات البترولية والأوروبية الكبري التي تنال نصيب الأسد من بترول بوليفيا بعدما قص أجنحتها هو جوشافيز في فنزويلا أن القرار الأخير للرئيس البوليفي قد سفح كل القواعد المعمول بها في قوانين التجارة الدولية وأعاد إلي الأذهان نغمة التأميم من جديد بعد أن سادت قوانين العولمة القائمة علي السوق المفتوح والخصخصة الواسعة لوسائل الإنتاج وإبعاد الدولة عن التدخل في مجريات السوق. وكان من الطبيعي والأمر كذلك أن توضع بوليفيا علي قائمة الدول المعادية للمصالح الأمريكية أو ما يطلق عليها بالدول المارقة جنبا إلي جنب مع فنزويلا وكوبا وإيران وكوريا الشمالية وبعض دول الشرق الأوسط في حين أسقطت ليبيا في الأسابيع الماضية من هذه القائمة نتيجة حسن السير والسلوك. وبالرغم من أن بوليفيا لم تؤمم هذه الشركة بشكل كامل بل زادت نصيب الدولة في هذه الشركات إلي أكثر من 50% حتي يكون لها الحق في الاشراف الفعلي علي مقدرات الشعب البوليفي بل وتركت لبعض الشركات البرازيلية والأرجنتينية العاملة في هذا المجال حرية الحركة. ويحك البعض رؤوسهم وبعنف ليس في دول العالم الثالث فقط الذي تورمت رؤوسهم من كثرة الدق علي الرأس، بل وبين أوساط الكتاب والمثقفين في دول العالم المتقدم في الغرب الأوروبي والأمريكي علي وجه خاص وتساءل كثير منهم في بيانات ومقالات منشورة عن أن الولاياتالمتحدةالأمريكية بشكل خاص لا يحق لها الاحتجاج خاصة بعد المعركة التي دارت في الأوساط الأمريكية احتجاجاً علي قيام شركة خليجية في دبي بشراء حق الإشراف علي تشغيل وتنظيم العمل في ست موانئ أمريكية. وقامت معركة طاحنة في الصحافة وأجهزة الإعلام والكونجرس والبنتاجون ليعلنوا الرفض القاطع المانع لذلك الإجراء تحت دعوي أن تدخل أي رأسمال أجنبي في إدارة هذه الموانئ هو بمثابة خلل للأمن القومي الأمريكي حيث إن لها أهمية استراتيجية. وقيل الكثير حول الأمن القومي وبقاء المصالح الأمريكية في أيدي الأمريكيين ومصالح أمريكا الحيوية وتقدم أحد أعضاء الكونجرس من الحزب الجمهوري الذي يحكم بمشروع قرار لتقييد حرية الرئيس الأمريكي في اتخاذ قرارات اقتصادية مصيرية إلا بعد موافقة الكونجرس بينما اتهم بعض أعضاء الكونجرس الذي وافقوا علي هذه الصفقة ومن بينهم الرئيس الأمريكي جورج بوش بأنهم يبيعون أمريكا وأمنها الاقتصادي والاجتماعي، فيما أكد رئيس لجنة القوات المسلحة في الكونجرس علي ضرورة أن تبقي المؤسسات القومية المهمة دوماً في أيدي الأمريكيين دون سواهم. وانتهي الأمر كما هو معروف بوقف الصفقة والغاء العملية كلها وكان معني ذلك أن الولاياتالمتحدة صاحبة نظرية العولمة الاقتصادية التي تدعو إلي حرية التجارة وفتح الاسواق بلا حدود والمنافسة الحرة بلا قيود الخصخصة الواسعة بعيدا عن الدولة هي نفسها التي سفحت هذه القوانين وهاجت وماجت وأزبدت وعربدت حينما قامت الشركة الخليجية بشراء حق الاشراف والتشغيل لستة موانئ أمريكية. وبدا واضحا أن الولاياتالمتحدة تفهم وتطبق قوانين العولمة وفقا لمقاس مصالحها، أو مثلما يقول الكاتب الفرنسي باتريك ساباتير أنها تتعامل مع قوانين العولمة آلا كارتا ala carte أي وفقا للطلب لأنها تتمسك بالمثل القائل ما هو لي فهو لي وما هو ملك الآخر فأمر مفتوح للمناقشة. علي أي هذا الاتجاه أو ما يسمي بحماية المصالح القومية العليا ضد الخصخصة وملكية رأس المال الأجنبي لم تقتصر علي الولاياتالمتحدة بل انها اصبحت شبه تيار يجري في العالم الرأسمالي كله، ليس فقط في أمريكا اللاتينية وشرق آسيا، بل وأنها في أوروبا وتحديدا في دول الاتحاد الأوروبي التي تحاول الانتقال سياسيا واقتصاديا إلي صيغة الوحدة الشاملة بعد إنشاء البنك المركزي الأوروبي وتوحيد العملة وإنشاء كيانات سياسية واقتصادية موحدة مع منتح الحدود أمام انتقال الأفراد ورأس المال. وأصبح هذا التيار ظاهرة واضحة في الدول المتقدمة التي بذلت ومازالت تبذل جهودا وضغوطا لكي تقوم دول مثل الصين والبرازيل والهند علي فك القطاع العام القوي في تلك البلدان تحت دعوي الليبرالية والعولمة، الجديدة، ففي فرنسا مازال هناك قطاع عام قوي قامت بوضع أسسه الأحزاب اليسارية الاشتراكية كما ساهم في دعمه أيضا الزعيم الفرنسي شارل ديجول التي أضاف إلي قطاع الدولة الأبحاث والصناعات الذرية والفضائيات والسكك الحديدية ورحلات الفضاء، بينما كان هناك بالفعل تأميم منذ سنة 1936م أمام حكم الجبهة الوطنية بزعامة الشيوعيين والاشتراكيين للصناعات الحربية والمترو والسكك الحديدية وبنك فرنسا المركزي. وتقول آخر استطلاعات للرأي في فرنسا أن أغلبية لا تقل عن حوالي 70% تؤيد حماية الصناعات الوطنية، وهناك اعتقاد بأن رفض أغلبية الشعب الفرنسي للدستور الأوروبي المقترح تماما وراءه تلك النزعة، ومؤخرا وافق رئيس الوزراء الفرنسي - دي فيلبان - ضد قيام شركة ايطالية بشراء شركة السويس الفرنسية وهي شركة خاصة بالطاقة، وسارع دي فيلبان إلي دمج الشركة مع الشركة الفرنسية العملاقة المملوكة للدولة - جاس دي فرانس - وذلك لقطع الطريق علي العرض الايطالي، كما أعلنت الحكومة الفرنسية أيضا رفضها العرض الذي تقدمت به شركة ألمانية لشراء شركة اركيلوس للحديد والصلب. وفي ايطاليا أعلن البنك المركزي الايطالي عن عدد من القواعد والشروط التي تستهدف في واقع الأمر منع الأجانب من شراء البنوك المملوكة للدولة، فيما أعلنت الحكومة الأسبانية رفضها لعرض أعلن لشراء شركة - آنديسيا - الاسبانية للخدمات والطاقة. وهكذا تمضي الأمور في الدول الرأسمالية الكبري وهو اتجاه جديد يطلق عليه البعض بروز المصالح القومية الاقتصادية، ويوضح ذلك زيف الحملة الموجهة ضد بوليفيا التي استخدمت نفس الحق في حماية مصالحها الاقتصادية. لقد قامت كثير من دول أمريكا اللاتينية وكذلك دول شرق آسيا برفض توليفة العولمة الاقتصادية والمصحوبة بتوصيات أو روشتة البنك الدولي وصندوق التنمية في أبعاد الدولة عن أي نشاط اقتصادي ولعله من الغريب وربما كان من الطبيعي ان المرضي الذين رفضوا هذه التوصيفات، تحسنت صحتهم الاقتصادية وبدت العافية في مجتمعاتهم ونشاطهم الاقتصادية مع زيادة الانتاج وانخفاض معدلات البطالة والتضخم. أما اللاعبون الكبار في الملعب الرأسمالي العالمي فيقومون علنا وعلي رؤوس الأشهاد بحماية ممتلكاتهم ضد أي وافد من الخارج يحتفظ بعضهم بقطاع عام مؤثر وفعال، بينما لا يكتفون صباح مساء عن الدعوة إلي الأسواق المفتوحة بلا حدود والخصخصة الواسعة بلا قيود. والغريب أنهم يجدون بعض الآذان الصاغية في بعض البلدان الفقيرة!!