في أعقاب هزيمة 1967 وبداية تمرد المجتمع المصري لأول مرة علي النظام الناصري، خرجت أكثر من انتفاضة طلابية وعمالية لا تطالب فحسب بمحاكمة المسئولين عن النكسة، ولكنها تطالب بالتصحيح، وبإقامة حياة ديمقراطية سليمة وكاملة وقد تنبهت قيادة النظام إلي أن التغيير قد أصبح ضرورة لا مناص منها... وأنه ليس من السهل كما كان الأمر في السابق اللجوء إلي قمع هذه الانتفاضات باستخدام الأجهزة الأمنية وسطوة القانون. ... وقد بادر النظام الناصري إلي إعلان بيان 30 مارس الشهير كخطوة أولي حذرة ومترددة في اتجاه الاصلاح، وقال جمال عبدالناصر كلمته الشهيرة "الشعب يريد وأنا معه"، وكان أبرز ما في هذا البيان إنشاء محكمة عليا تكون مهمتها مراقبة دستورية القوانين.. ولعل ما ذهب إليه النظام بعد ذلك عقب رحيل قائده التاريخي وانتقال القيادة إلي الرئيس أنور السادات من نزوع إلي نشأة المنابر السياسية ومن بعدها الأحزاب السياسية وصياغة دستور جديد دائم هو أثر من آثار هذه التداعيات التي بدأها النظام في ظل قيادته السابقة وليست انقلابا عليه كما يتوهم الكثيرون من أنصاره ومن معارضيه. المهم أن أهم أثر من اَثار هذه التداعيات هو إنشاء المحكمة الدستورية العليا لمراقبة دستورية القوانين، أو بمعني آخر فقد أصبح لأول مرة من اختصاص السلطة القضائية مراقبة سلطة التشريع عن طريق محكمة عليا متخصصة.. ولم تعد يد السلطة التشريعية طليقة من كل قيد في سن ما تراه من قوانين. ولكن صناعة التشريع في المجالس النيابية المختلفة كانت تمارسها السلطة التنفيذية التي تعرض مشروعات القوانين التي ترغب في اقرارها وكانت الأغلبية التابعة للحزب الوطني الحاكم تنصاع لرغبة السلطة التنفيذية وتجيب لها كل مطالبها في إعداد القانون وصياغته... وكانت المحكمة الدستورية العليا تقف بالمرصاد لأي قانون يكون مخالفا للدستور أو لمبادئه التي كانت المحكمة الدستورية تفسرها تفسيرا موسعا لصالح الحريات العامة وحقوق الملكية الفردية التي تضعها موضع القداسة...وقد تنبه ترزية القوانين لأثر المحكمة الدستورية العليا وخطرها علي صناعة التشريع، وما يترتب علي ذلك من إهدار أي قانون تصدره السلطة التشريعية يكون مخالفا للدستور أو مبادئه الرئيسية... فكانت الدعوة لغل يد المحكمة الدستورية العليا عن طريق اعداد تشريع جديد يقيد من سلطتها، وسمعنا من ينادي بالرقابة السابقة بديلا عن الرقابة اللاحقة، ولم تجد هذه الدعاوي حتي الآن مجالا لها. ولكن بدا في الأفق تطور جديد في صناعة التشريع في مصر، هو أخطر تطور علي الاطلاق فبمناسبة الحديث عن الغاء حالة الطوارئ والاستعاضة عنها بقانون الارهاب.. فوجئنا بأن حالة الطوارئ يتقرر مدها بدلا من إلغائها.. وقيل في تبرير ذلك أن قانون مكافحة الارهاب يحتاج إلي حسن اعداد، وإلي مزيد من التأني والتمهل في اصداره ليلبي الغرض منه.. وكانت المفاجأة الكبري ما أعلنه الدكتور مفيد شهاب.. أستاذ القانون المرموق ووزير شئون مجلسي الشعب والشوري، إذ صرح بأن نصوص الدستور الدائم تقف عقبة أمام بعض نصوص قانون الإرهاب... فما المخرج؟... المخرج الطبيعي إذا حسنت النوايا هو العدول عن نصوص قانون الارهاب التي تتعارض مع الدستور حتي لا تصطدم مستقبلا مع احكام المحكمة الدستورية العليا.. لكن الدكتور شهاب ذهب إلي مخرج جديد وفريد.. إذ قرر بأن الأمر يحتاج قبل تقديم قانون الارهاب إلي تعديل كل نصوص الدستور التي تتعارض معه والغرض من ذلك أن يصدر هذا القانون بصورة دستورية سليمة فلا تملك المحكمة الدستورية العليا أي تعقيب عليه في المستقبل!! وبذلك أصبح الانفلات من الرقابة الدستورية سهلا يسيرا.. فبدلا من أن تنصاع القوانين التي يصدرها مجلس الشعب لأحكام الدستور، أصبح البديل المطروح هو أن تنصاع أحكام الدستور لنصوص القوانين التي يصدرها مجلس الشعب.. فيا له من تطور! ويا لها من براعة نزلت علي ترزية القوانين وصار في مقدورهم أن يخرجوا ألسنتهم للمحكمة الدستورية العليا ويقولون لها أنت تملكين مراقبة دستورية القوانين.. ولكننا نحن ترزية القوانين نملك مراقبة الدستور نفسه.. نحذف منه ما نريد، ونعدل فيه كيفما شئنا، ونضيف إليه ما نراه.. فأي رقابة هي الأقوي؟!... ولكم دينكم ولنا ديننا ولم يبق أمام ترزية القوانين إلا اقتراح واحد من شأنه تسهيل مهمتهم بصورة جذرية.. هو إلغاء الدستور نفسه حتي تتحرر صناعة التشريع في مصر تحررا كاملا غير منقوص!!