نحن لا نري كل الأشياء، هذه حقيقة لا نجادل فيها أو نشك.. ونحن لا نسمع كل الأصوات، تلك أيضا حقيقة لا نماري فيها فالعلم قد أثبت لنا أن هناك في هذا الكون ما هو فوق الصوتيات التي تعجز اسماعنا علي سماعها وهناك ما هو فوق البصريات التي تعجز أعيننا عن رؤيتها.. ولكن ما أتحدث عنه هنا ليس هذا أو ذاك ولكنه شيء آخر يقع ويحدث أمام أعيننا وكأننا لا نراه.. لقد أبصرناه ولم نره فكيف نفسر ذلك؟ هذا ما يحتار له العقل ويطرب له الوجدان.. أنا لا أتكلم هنا عن قوي خفية يمكن أن تغيب عن أبصارنا وإن كنا ندرك وجودها من خلال تأثيراتها.. لا أتكلم عن هذا لكني أتكلم عن أشياء تقع وتحدث جهارا نهاراً نبصرها ونملأ بها أعيننا ولكن لا أثر لها علينا وكأننا لم نرها وإن أبصرناها. هل أتكلم عن فزورة هنا؟ الواقع أيها السادة أنها قد تكون فزورة في تفسير أسبابها ولكنها حقيقة في وقوعها وحدوثها.. خذ عندك مثلا ما يحدث في الشارع المصري إنه انفلات وفوضي في كل شيء قولا وسلوكا وفعلا.. ونحن نبصره أمام أعيننا ليل نهار ولكن الحال يبقي كما هو سنوات وسنوات وكأننا لم نر شيئا.. كيف نفسر ذلك؟ وكلنا يشتكي من ذلك حكومة ومواطنين.. هل عجزنا عن أن نجعل هذا الشارع منضبطا؟ البعض يقول لك بكل وضوح نعم نحن لا نستطيع لأن الناس قد انفلت أمرها والبعض الآخر يقول لك كيف تستطيع والقانون أي قانون عندنا لا يطبق إلا علي عباد الله من الضعفاء والبسطاء أما أصحاب النفوذ نفوذ السلطة والمال فإن القوانين تقف أمامهم عاجزة وهؤلاء الضعفاء والبسطاء ماذا سوف تأخذ منهم إذا نحن حاسبناهم أو غرمناهم أو حتي جلدناهم ماذا تأخذ الريح من البلاط.. ثم إن هؤلاء لو وجدوا انضباطا لانضبطوا. إن المشكلة في أصحاب النفوذ في الشارع والنادي فيهم وفي أولادهم وفي أقاربهم لأنهم مختلفون وقد نفلسف ذلك ونقول كلمات كبيرة إنها ثقافة غائبة في احترام القانون واتباع النظام.. وإذا قلت لمن يقولون ذلك إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.. يقولون لك ومن يستطيع تطبيق القانون علي هؤلاء.. إنه السلطان فتقول لهم نحن نتحدث هنا عن سلطان القانون ولا نتحدث عن أفراد أو بشر.. فيقولون ولكن من يطبق القانون هم في النهاية بشر ومن يطبق عليهم القانون هم أيضا بشر.. فالقضية يا سيدي ليست في القوانين ولكن في البشر الذين يطبقون والبشر الذين يطبق عليهم فتقول لهم إن رمز العدالة عندنا معصوب العينين لأنه لا يري هذا أو ذاك فيقولون لك بامارة أيه؟ نحن نتكلم عما يحدث وأنت تتحدث عما يجب أن يحدث.. نحن نتكلم عن الواقع الذي نبصره وأنت تتحدث عما يجب وما ينبغي وكل ينبغياتك عندما تعجز عن أن تصبح واقعا تبقي مجرد أماني أو سراب يحسبه الظماَن ماء وهو ليس بماء.. ويظل محدثك يحكي لك عشرات الحكايات عما يحدث في الشارع والمدرسة والمستشفي والمصالح الحكومية والجمعيات والأندية والنقابات والأحزاب.. إن كل مدير يفعل ما يريد ويستطيع أن يتجاوز كما يشاء وحتي نستطيع أن نثبت تجاوزاته فسيضيع العمر ولن نصل لشيء بل قد يطالك أنت العقاب.. فتقعد ملوما محسورا. لماذا ضعفت آليات المجتمع لدينا في الحساب والمساءلة ولماذا عجزنا عن ملاحقة المخالفين.. إنها الادارة أيها السادة في كل موقع وفي كل مكان.. علينا أن نواجه كل مدير في كل موقع وبدون تلك المواجهة سنظل نعاني دون جدوي. إن كل الفساد والانحراف مصدره أن يناط الأمر بغير أهله.. مدير عابث أو مستهتر في أي موقع سيجعل كل شيء فيه عبثاً واستهتار.. لن ينصلح حال مستشفي أو مدرسة بدون مدير علي المستوي والقدر والمقدرة التي يجب أن تكون وبشرط أساسي هو أن يعطي هذا المدير الكفء والنزاهة الآمنة من القيادات التي تعلوه.. ذلك أنه يمكن أن يطبق الصواب ويحارب الفساد ويأتي من هو أعلي منه فيبطش به.. إنها منظومة لابد أن تكتمل حلقاتها لكي يستطيع حتي المدير الصغير أن يصحح ويطبق الصواب دون أن يخشي أحد.. وهذا الذي قد نبصره ونراه هو الشرط اللازم لكي ينصلح الحال فلا يمكن أن نطلب من المصلح أن يصبح ضحية فيأتي من بعده ليقول لنفسه "انتهي الدرس". أيها السادة إن الادارة والحضارة صنوان لا يفترقان.. وبغير نظام إداري متكامل تنتظم جميع الدرجات ومختلف المستويات من أدناها إلي أعلاها بانضباط ونزاهة فلن تبني حضارة أو يصنع تقدم أو يواجه انحراف وسنظل نبصر الاشياء وكأننا لا نراها فتنشطر حياتنا إلي نقيضين ما نقول وما نري ونفعل وهذا هو الذي يصنع الأزمة ويذهب الثقة.. علينا إذا أن نبني سلما إداريا كل درجاته سليمة حتي نستطيع أن نصعد به ومن خلاله إلي ما نريد بأمان وثقة.. وهذا السلم مطلوب في كل مواقعنا في المصالح الحكومية وفي الوزارات وفي الأندية وفي النقابات في الزراعة والصناعة والصحة والتعليم.. في الاعلام والثقافة وكل مجالات الأنشطة.. ومعركتنا في التقدم هي في الادارة ومعها قبل أن تكون في أي شيء آخر وحتي نكسب هذه المعركة نحتاج إلي أمرين أولهما إلا نفقد الأمل في امكانية أن نحقق ذلك وإلا نسمح لاحد أن يفقدنا هذا الأمل وثانيهما أن نشارك بفاعلية ولو حتي برفع الصوت وتكرار الالحاح دون أن يتسرب إلي أنفسنا اليأس أو القنوط.. والذين يزرعون فينا اليأس يحاولون أن تبقي هذه الأوضاع التي نشكو منها علي حالها وكأنها قدرنا وأن نقول لأنفسنا "ناموا فما فاز إلا النوم" وعلينا إلا نكون أبدا كذلك وهذا والله ممكن ومستطاع.. مرة أخري إنها الادارة في كل موقع وفي كل مكان وعبر أي زمان.