الأديب العالمي نجيب محفوظ الذي كتب عن القاهرة القديمة بكل الحب والعشق، وخلدها في رواياته الرائعة عاد اليوم ليطالب بإخلاء القاهرة لتصبح عاصمة للتاريخ وتأسيس عاصمة إدارية جديدة لمصر. ونجيب محفوظ محق تماما في دعوته التي ينبغي التعامل معها بجدية وواقعية، فلا أمل في نجاح أي خطط لتطوير القاهرة حاليا وإزالة الاختناقات المرورية المتزايدة في شوارعها وتوفير الحياة الآدمية لمواطنيها في ظل هذا التكدس السكاني الذي حول شوارعنا الي ساحات حرب والذي قضي تماما علي الهدوء ونظافة البيئة واصبح عامل تهديد للمواطن في أمنه وسلامته. فالقاهرة القديمة التي تضم كنوزا تاريخية أثرية لا مثيل لها يمكن أن تتحول إلي مزار سياحي ضخم إذا ما أصبحت مدينة سياحية فقط، فمن غير المعقول أن يكون لدينا منطقة مثل القلعة بكل ما تضمه من آثار إسلامية ويصبح الوصول إليها لزيارتها نوعا من المعاناة والعذاب في مواجهة سائقي الميكروباصات والباعة والأسواق الشعبية التي تسد كل المداخل والاتجاهات.. وليس من المعقول أن منطقة بكل هذه الكنوز الأثرية مثل منطقة الغورية تصبح سوقا مفتوحة تعج بالمحلات والبوتيكات التي تتخذ من حوائط المساجد ساترا لها، وهي المساجد التي تحولت إلي أماكن استراحة للمراهقين من العاملين في هذه المحلات أو دورات مياه خاصة بهم! وفي مختلف مناطق القاهرة القديمة تنتشر الآثار الاسلامية القديمة التي تمثل تاريخا متميزا بالحضارة والابداع والتي أصبحت تجاور الان ورشا ومقاهي وميكانيكية وسمكرية وكل أنواع الخدمات في تلاحم أضاع معالم هذه المناطق وجعل من دخول السائح لها نوعا من المغامرة غير مأمونة العواقب! ولم يعد هناك أمل في التعرف علي قاهرة نجيب محفوظ القديمة، في باب زويلة والفجالة وباب الوزير والدرب الأحمر والحسين والأزهر بسبب الازدحام والاختناقات المرورية وعدم وجود أية تسهيلات للسائحين تجعل من زيارتهم لهذه المناطق رحلة مع التاريخ فقد أصبحت في الواقع زيارات "للبهدلة" والمعاناة وأحيانا "للقرف"! أما الحديث عن القاهرة الحديثة فهو لايقل ألما عن القاهرة القديمة، فلا تخطيط ولا تطبيق للقوانين وكل واحد "بيعمل اللي عايزه"، فسلطة المحليات غائبة، وإن أصدرت قرارات فلا يمكن تنفيذها لأن سلطات التنفيذ محدودة العدد والإمكانيات، وتليفون من مسئول يستطيع إيقاف أي قرار مهما كانت قانونينه ووجاهته، والناس تخالف وتستهتر بالقانون لأنها تدرك أن هناك بابا خلفيا دائما للهروب من قبضته..، والعمارات المخالفة ترتفع في سماء القاهرة كل يوم بلا عدد، والمجمعات التجارية تحصل علي تراخيص لتمارس أنشطتها في أحياء هي أساسا تعاني من الازدحام وسوء الخدمات لتأتي المجمعات التجارية بكل ما تسببه من ازدحام لتقتل البقية الباقية من الأمل لدي قاطني هذه الأماكن. وتحاول السلطات الأمنية فرض الأمن والنظام في هذا السيرك الكبير دون جدوي لأنها لو حاولت أن تقوم بمهامها علي الوجه الأكل مكان هذا معناه أن يكون عدد العاملين في الداخلية أضعاف أضعاف الأعداد الحالية ولتضاعفت الميزانية ايضا بحيث نستهلك دخلنا القومي لتنظيم المرور فقط ولضبط الأمن في الشارع..! ،لقد ترددت دعوات كثيرة تدعم فكرة إنشاء عاصمة إدارية جديدة لمصر في خطوة تشجع علي الإقامة بالمدن الجديدة التي لازالت خاوية علي عروشها والتي أنفق عليها المليارات ومع ذلك فإنها عبارة عن فيلات وشقق مغلقة لا تستخدم في كثير من الأحيان إلا في الأعياد أو في عطلة نهاية الأسبوع. ولا أمل في استجابة الوزراء والوزارات للانتقال خارج القاهرة إلا إذا صدر قرار سياسي علي أعلي مستوي بأن يتم تنفيذ ذلك علي الفور. ونحن لا ندعو إلي تغيير اسم القاهرة كعاصمة لمصر، ولكننا نأمل في أن تكون هناك قاهرة إدارية تخفف الضغط عن القاهرة القديمة وتحولها فعلا الي متحف للتاريخ يستطيع فيها السائح أن يتجول في كل مكان علي قدميه وأن يجد مكانا مناسبا يجلس ليستريح فيه، وهواء نقيا يتنفسه وبشرا يبتسمون في وجهه بدلا من أن يضحكون عليه ويتساءلون عن ما الذي دعاه إلي هذه "البهدلة" وهذا العذاب وعن حظه العاثر الذي ألقي به في "بحر الظلمات"..! [email protected]