عبدالتواب عبدالحي - من تورنتو. كندا منظر يثير الأسي والضحك معا.. منظر الرئيس بوش في ميدان جاكسون بالحي الفرنسي وسط اطلال مدينة أورلينز الخاوية، وهو يخطب في البرية بلا جمهور، عبرموجات الأثير التي حملت الي المدينة إعصار كاترينا الساحق الماحق قبل اسبوعين.. لم يعترف بوش بتقصيره وتأخيره ثلاثة ايام كاملة قبل ان يتحرك لمواجهة الحدث وإغاثة ضحاياه - 485 الفا في نيو اورلينز وحدها.. لكنه نقل عبء ذنبه الي اكتاف حكومته، متهما إياها بانها "لم تتعامل مع آثار الكارثة بصورة ملائمة وافية بالمراد - adequateely"! يصف مسئول بالإدارة الأمريكية البيت الابيض - معقل الحكم الأمريكي - بأنه.. "كثيرا ما يكون بطيئا جدا في مواجهته للأحداث الجسام"! ينطبق ذلك تماما علي فريق الحكم (Ateam) بامتداد ايام اعصار كاترينا وهو يكتسح ولايات جنوب امريكا المطلة علي خليج المكسيك: الرئيس بوش كان في مزرعته في كراوفورد - تكساس يتردد ويتذبذب (Vacillating)، مع انه كان في سلطته ان يعقد "مؤتمر فيديو" فوريا مع كبار رجال الحكم ويحركهم علي مستوي الحدث!.. رئيس هيئة موظفي البيت الابيض، آندي كارد، كان يقضي اجازة في ولاية مين، وهو الدينامو الفعلي لشئون الرئاسة!.. ديك تشيني، الرجل رقم 2 علي سلم الحكم، في اجازة هو الاخر بولاية وايو منج.. كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية في مانهاتن بنيويورك تتسوق لنفسها بعض الاحذية!.. حتي العقول المفكرة لشئون العلاقات العامة، بمن فيهم مارك مكينون المستشار الاعلامي للرئيس بوش، كانوا في اثينا باليونان، يشاركون في حفل زفاف نيكول ديفينش مديرة الاتصالات بالبيت الابيض! من يحكم أمريكا إذًا في هذا الظرف العسر؟ ومن يأمر فيطاع؟ ومن يصحب الرئيس الامريكي في رحلة عودته من مزرعة كراوفورد الي البيت الابيض؟ لا احد.. الا كلبه الأليف: بارني!! مشهد لا يحدث في دولة من دول العالم الثالث! ما الذي جعل بوش يتجمد ل 72 ساعة كاملة في مواجهة إعصار كاترينا الكاسح دون ان يتحرك في أي اتجاه؟! خبراء في شئون الرئاسة الامريكية يجيبون: "لقد خشي ان يطلب من الشعب الامريكي مزيدا من التحمل والتضحية.. علي خلفية ما يتحمله بالفعل من اعباء حرب العراق المتلتلة"! رفض بوش كذلك عروض معونات كثيرة انهالت عليه بسخاء من الدول الحليفة.. رفضها بتعال وازدراء (spurned it).. ما السبب؟! مسئول بالإدارة الامريكية يعلل: "ربما رأي في قبولها علامة ضعف لا تليق"! تبارك صاحب العظمة وحده والكبرياء! الرعب للجميع.. مشاع! عشية صواعق سبتمبر اختلف الليبراليون والمحافظون الجدد حول استراتيجية الرد علي قساوات الحدث.. قال الليبراليون: علينا ان نجهز عرائض الاتهام ضد المهاجمين، جنبا الي جنب مع وسائل العلاج والفهم لظروفهم.. بينما رأي المحافظون ضرورة اطلاق عنان القوة المسلحة (unleash the military) لسحق طالبان والقاعدة في افغانستان، قبل القفز الي الصيد البترولي الثمين في العراق! وحدد المحافظون امد الحرب ضد الارهاب.. قال دونالد رامسفيلد: "الحرب الباردة استغرقت حوالي 50 عاما.. والحرب ضد الارهاب قد تمتد لأطول من هذا الأمد"! وقال وولفويتز: "سوف تكون حربا بلا نهاية"! واتفقوا علي صفة مميزة لتلك الحرب، ان تكون مروعة ومرعبة (awesome)! لكنهم جعلوا الرعب والترويع ايضا صفة تطارد المواطن الامريكي في اليقظة والمنام!.. اصدروا قانون المواطن (Patreiot Act) سنة 2001، وحملوه أحكاما مذهلة تكمم أفواه الافراد، وتصادر خصوصياتهم، وحقوقهم المدنية الاساسية.. وافق مجلس الشيوخ علي القانون المشبوه في جلسة صاخبة.. استهلها السناتور الديمقراطي روس فينجولد بكلمة آية في البلاغة والتشبث بعواصم الحرية.. قال: "مرت بتاريخنا فترات احتلت فيها الحرية المقاعد الخلفية، بدعوي ضرورات الحرب (exigeenccies of war) من ذلك: اعتقال الامريكيين من اصول يابانية والمانية وايطالية، إبان الحرب العالمية الثانية.. قوائم المتعاطفين مع الشيوعية، أيام حملة ماكارثي.. ووضع المحتجين ضد حرب فيتنام تحت المراقبة ورهن الاعتقال، بمن فيهم داعية الحرية مارتن لوثر كنج.. إلي غيره! وارجو ألا يصدر هذا القانون، ليكون مقدمة لعودة مثل هذه الجراح الوطنية"! لكن القانون صدر باغلبية 98 صوتا.. ضد صوت واحد.. هو صوت السناتور روس فينجولد، عضو مجلس الشيوخ عن ولاية ويسكونسن،ونصير الحرية الوحيد في الكونجرس الأمريكي! تسلل.. واختلس النظر! في كتابه (Dude,where is my country) يقول مايكل مور صاحب الفيلم الشهير "فهرنهايت 9/11": "قانون المواطن ليس فيه شيء من الوطنية.. إنه خطأ جسيم في التسمية (gross misnomer).. وهو جزء من التمويه والخداع لترويج احكام جائرة نتنة، ربما اكثر نتنا من مياه مستنقعات فلوريدا"! تصفحت نص قانون المواطن - 342 صفحة، ليس فيه حكم واحد صريح يجرم أو يبيح.. وانما كل مواده اسناد بالتعديل لفقرات مئات القوانين الامريكية التي صدرت بامتداد القرن العشرين.. ولكي تقرأه بشيء من الفهم لمجمل احكامه، لابد من مكتبة قانونية موسوعية وراء ظهرك.. ونخبة من كبار المحامين واساتذة القانون رهن تساؤلاتك! من الاحكام الواضحة لقانون المواطن: حق اجهزة الامن في متابعة وقنص الرسائل الالكترونية الخاصة (e-mails) لاي مواطن دون امر قضائي.. وكذلك فحص حساباته المصرفية.. وتقاريره المدرسية.. والكتب التي استعارها اطفاله من المكتبات العامة علي امتداد العام.. والاوقات التي استغرقها في انكبابه علي الانترنت.. وحتي ايصالات مشترياته من المحال العامة! ومن سلطات التسلل واختلاس النظر (sneak and peek) التي يبيحها القانون لرجال الامن: تفتيش المنازل دون اذن صاحبها او اي إذن قضائي.. رغم التعديل الرابع للدستور الامريكي، والذي ينص علي ضرورة توافر إذن قضائي بناء علي سبب مقنع يستوجب ضرورة تفتيش المسكن في حضور صاحبه او من يمثله! قبل مجيء بوش وعصره.. قالوا: ان امريكا بلد الاحرار.. واذا سمح اي امريكي لحكامه بالتطفل علي حياته الخاصة، وانتهاك فضائه الانساني، فان فكرة العيش في مجتمع حر تطير فرارا من الشباك.. لتعشش في احضان تمثال الحرية بميناء نيويورك! وجون آشكروفت وزير العدل الامريكي، والرجل القبيح وراء تشريع قانون المواطن، عاش معقدا وكارها للحرية.. ومحبا لازعاج الامريكيين كل حين برفع حالة الاستعداد الي اللون البرتقالي، في انتظار هجمة ارهابية لا تجيء! جون آشكروفت هذا رشح نفسه لعضوية مجلس الشيوخ سنة 2000 عن ولاية ميزوري.. اسقطت جماهير الولاية آشكروفت، وصوتت لصالح مرشح مات قبل شهر كامل من موعد الانتخابات! في وقت الحرب، قال الرئيس جيفرسون مشجعا شعبه علي رفع الهامة: "نحن لا نخاف شيئا.. إلا الخوف نفسه"! وفي ظل الحرب التي فقدت بوصلتها ضد الارهاب.. يردد الامريكيون من القلب: نحن لا نخاف احدا.. الا جورج بوش! رغم يقيني ان بوش ليس شخصية مخيفة، بقدر ما هو شخصية خائفة.. أي حدث جلل يشل فكرها، ويلجم حراكها، ويتركها في الضياع!!