قبل بدء الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة كان الفلسطينيون قد بدأوا بالفعل الاحتفال وأطلقوا العنان لأحلامهم وآمالهم المحبطة علي مر السنين فخرج قمع سنوات الاحتلال الطويلة صراخاً ودموع فرح بأول إزالة لمستوطنات بنتها إسرائيل علي الأراضي التي احتلتها في حرب عام ،1967 وخرج الزعماء الفلسطينيون يسيرون وسط الجموع هاتفين معهم "اليوم غزة وغدا القدس" ناسين أو ربما متغافلين عن وعد الرئيس الأمريكي جورج بوش لارييل شارون رئيس الوزراء الإسرائيلي العام الماضي بالسماح له بالاحتفاظ بمستوطنات في الضفة الغربية إلي الأبد. وفي الوقت نفسه كان شارون يعد المسرح لاستعراض الانسحاب فخطط ونفذ عرضاً محكماً قدمه للعالم خرج فيه "جيش الدفاع الإسرائيلي" بكامل هيبته ليطرد المستوطنين من الأرض المحتلة فاقتحم منازل ومعابد وحمل المتشبثين بالأرض حملاً إلي أوتوبيسات لتهجيرهم من الأرض التي مكنهم منها من قبل وحملت البولدوزارات القوات إلي أسطح المباني التي احتمي بها المستوطنون وأنزلوهم قسراً وبعد أن كانت الجرافات تدك بيوت الفلسطينيين بدأت أمام كاميرات وسائل الإعلام الأجنبية تدك منازل المستوطنين لتخلي الأرض لأصحابها. أثبت شارون وفريقه الحاكم في إسرائيل قدرات هائلة في فن الإخراج فصنع الحدث بما يتلاءم مع ما يريد أن يحصل عليه من إشادة في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة الشهر المقبل والذي يعلق عليه آمالاً كبيرة في تحسين صورته أمام العالم وتأكيد صورة شارون "رجل السلام" التي دأب بوش علي ترديدها ولم يصدقه الكثيرون. أخرج شارون هذه المشاهد ربما لينسي العالم أنه هو ذاته شارون بطل المد الاستيطاني الذي اعتبرته محكمة العدل الدولية غير مشروع والذي بني عام 1991 أثناء توليه منصب وزير الإسكان 13 ألف وحدة سكنية استيطانية في الضفة الغربية بالمقارنة مع 20 ألف وحدة في العشرين عاماً السابقة، إنه نفسه شارون الذي قال في عام 1998 عندما كان يشغل منصب وزير الخارجية للمستوطنين "سيطروا علي المزيد من التلال ووسعوا الأراضي، كل ما يمكن أخذه سيبقي في أيدينا وكل ما لا نستطيع أخذه سيبقي في أيديهم"، وهو نفسه شارون الذي قال في عام 2002 بعد أن أصبح رئيساً للوزراء "مصير نتساريم هو مصير تل أبيب" مشيراً إلي أن إسرائيل تتمسك بمستوطنات غزة بقدر تمسكها بمدنها الكبري. لكن يجب أن يكمل أحد الفيلم محبكاً لشارون فيوضح الصورة لجمهور غربي غيبته وسائل الإعلام التي تركز علي تغطية مثل هذه الاستعراضات يجب أن يوضح أن شارون لم يتغير وأنه ليس هناك أي تناقض بين ماضيه وحاضره يجب أن يلقي أحد ببعض الأرقام وسط مشاهد الاستعراض التي قد تنسكب لها دموع الغرب منها مثلاً أن كل الذين تم إجلاؤهم 8500 مستوطن وباقي 230 ألف مستوطن في تكتلات استيطانية شاسعة في الضفة الغربية مجرد وجودها يحرم الفلسطينيين من إقامة دولة "قابلة للبقاء" كما تنص خطة خارطة الطريق للسلام في الشرق الأوسط التي دعمها وسطاء دوليون بزعامة الولاياتالمتحدة وهي نفسها المستوطنات التي قايض بها شارون غزة فترك غزة ليحتفظ بهذه للأبد، وإن إخلاء مستوطنات غزة وعددها 21 مستوطنة وأربع مستوطنات من 120 مستوطنة في الضفة الغربية لا يعني جلاء المحتل طالما ظلت المعابر والأجواء والمنافذ تحت سيطرته وظلت حركة البشر والسلع تحت رحمته. ويتضمن السيناريو الشاروني كذلك إشارات إلي أنه بكل هذه المشاهد المؤثرة ليهود يحملون شمعدانهم المقدس خارجين من الديار كما فعل بهم الرومان قديماً يكون قد بذل كل ما في وسعه لدعم السلام وتأمين الإسرائيليين من هجمات الفلسطينيين وهو ما يعني أنه لو تجدد العنف لأي سبب سيعتبر أن من حقه أمام العالم أن يفعل ما يحلو له وأن يسحب كل ما قدمه علي الرغم من أنه لم ينفذ أصلاً الشرط الوحيد الذي ألزمته به خارطة الطريق وهو وقف المد الاستيطاني علي الأراضي المحتلة، واستمرار بناء المستوطنات من شأنه كما يقول المسئولون الفلسطينيون إثارة العنف من جديد لتعود الحلقة المفرغة للدوران بالفلسطينيين من جديد من إحباط لإحباط تتخلله ومضات فرح مثل التي عبر عنها الفلسطينيون وهم يحلمون بشواطئ غزة وأراضي شمال الضفة. واحتمال تجدد العنف ليس ببعيد لسبب بسيط جداً هو سوء الفهم أو سوء التعبير عن المواقف أو حوار الطرشان واختلاف رؤية الواقع علي الأرض وهو أن كل طرف يصفق لشيء مختلف ومتناقض مع الآخر فالفلسطينيون يصفقون "لغزة اليوم والقدس غداً" وشارون يصفق "لغزة أولاً وأخيراً" والعالم المغيب تحت وطأة جهاز إعلامي يخرج وينتج مشاهد مغلوطة سيصفق في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة ل "شارون رجل السلام" لكن تري إلي متي سيستمر التصفيق ومتي سيسدل الستار وكيف سيكون مشهد الختام الذي لا يبدو في الأفق إن جيلنا أو جيل أبنائنا سيراه؟