لم تكن نتيجة الاستفتاء علي الدستور الأوروبي بالرفض في فرنسا وهولندا غير متوقعة في نظر كثير من المراقبين لأحوال الاتحاد الأوروبي والمناخ السياسي في دول أوروبا الغربية. ولعل نتيجة الاستفتاء تعبر عن أزمة هذه الدول في ضوء التحولات التي تتم في داخلها أو في موقفها مما يسمي بالعولمة أي عولمة الرأسمالية العالمية ولعل ذلك يوضح كيف ان نتيجة الاستفتاء في فرنسا كانت في نفس الوقت تعبيرا عن رفض السياسات الاجتماعية التي تتخذها الحكومة الفرنسية. مراقبة التصويت في الاستفتاء تبين الاستقطاب الاجتماعي في تلك الدول نتيجة للسياسات الاقتصادية التي اتبعت في السنوات القليلة الماضية سواء في فرنسا او حتي ألمانيا التي لم يتم فيها استفتاء انما فقد فيها شرودر الانتخابات في أهم الولايات الألمانية مما يضطره إلي اجراء انتخابات ألمانية قبل موعدها. ولعل مجمل السياسات الاقتصادية في أوروبا الغربية أو حتي في الولاياتالمتحدة تتوخي من أجل المحافظة علي معدل ربح عال للاستثمارات المالية ان تصفي مجتمع الرفاهية في أوروبا الغربية من التعليم والعلاج الطبيعي المجاني والمعاشات واعانات البطالة وتغيير القوانين التي تنظم استخدام العمالة. ومن ناحية أخري فإن توجه الشركات الكبيرة عابرة الحدود للاستثمار في الخارج للحصول علي عمالة ذات أجور ضئيلة لخفض التكلفة وتحقيق معدلات أرباح عالية مما يضاعف البطالة المزمنة لايجاد وضع صعب وغريب فرؤوس الأموال والقدرة علي الاستثمار متوافرة تماما والعمالة ذات التدريب العالي متوافرة والبطالة مزمنة، ولعل المتتبع لحركات الاضرابات المتوالية خاصة في فرنسا يتبين ازمة النظام التي لا تجد حكومة فرنسا حلا لها بل أن الاتجاه إلي خفض الضرائب علي الارباح الرأسمالية وزيادة الضرائب علي المستهلكين هي محاولة لرفع معدل الربح دون طائل مع زيادة العجز في ميزانية الحكومة ومن ناحية اخري فإنه يتم استقطاب حاد في الدخول في هذه الدول بين معدل متوسط الأجر بل اعانة البطالة وأرباح أو أجور الرئاسات العليا في الشركات عابرة الحدود زادت بمعدل كبير وأوجدت مناخا من السخط. في خضم ذلك فإن رفض الدستور الأوروبي في الاستفتاء الاخير انما تم في خضم أزمة اجتماعية وفقدان الثقة في الحكومة. ومن ناحية أخري فإنه حتي اليمين الأوروبي لم يتخذ موقفا موحدا من الدستور الأوروبي فمع الاستثمارات الاجنبية المتبادلة بين أمريكا وشركات أوروبا الغربية خلق موقفا جعل جزءا من اليمين الأوروبي يقبل العولمة بالشروط الامريكية أي التخلي عن حلم أوروبا الموحدة القادرة علي خلق قطب عالمي جدير بمناظرة القطب الأمريكي الأوحد. أما ما يسمي أحزاب اليسار الأوروبي فإن الاشتراكيين الديمقراطيين سواء في ألمانيا أو فرنسا انما يتخذون سياسة هي في لبها الحفاظ علي مصالح الرأسمالية الأوروبية وأساسا في تحقيق أعلي معدلات الربح والتخلص بشكل أو بأخر عن مجتمع الرفاهية الذي أسسته أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية في غضون فترة النمو الاقتصادي في خمسينيات إلي سبعينيات القرن الماضي. عامل أخر أثر علي نتيجة الاستفتاء رغم انه لا يظهر بشكل مباشر واضح هو التوسع الذي تم في غضون السنوات القريبة الماضية من ضم دول أوروبا الشرقية هذا الضم تم اساسا لحصار روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وكان موضع رضاء وتشجيع أمريكا ومن الناحية النظرية أو العاطفية فهو جزء من حلم أوروبا الموحدة التي فارقت الفترة من تاريخها المشحون بالحروب والصراعات غير أن هذا التوسع أفقد القلب أو المركز الأساسي للوحدة وهو الحلف أو الاندماج أو التوحد الألماني الفرنسي بل إن هذا الحلف وقبل دخول حتي انجلترا كان من الممكن بعدد سكانه المقاربين لمائتي مليون وبقدراته الصناعية والاقتصادية ان يوجد قطبا عالميا بعد توحده التام في دولة فيدرالية يكون قادرا علي مناظرة القطب الأمريكي. غير أن التوسع الأوروبي أضعف قدرة التلاحم الفرنسي الألماني علي قيادة أوروبا الموحدة ولعلنا نذكر بعد هدم سور برلين وضم ألمانياالشرقية لالمانيا الغربية من تصفية قدرات القسم الشرقي الاقتصادية وحال البطالة المزمنة التي نتجت عنها بحيث تبين استطلاعات الرأي في كلا القسمين من ألمانيا ان الاغلبية في الشقين الشرقي والغربي تتمني أنه لم يكن قد هدم سور برلين. نفس التخوف في أوروبا الغربية بعد ادخال دول شرق أوروبا بعمالتها الرخيصة وانتقال الشركات الصناعية في ألمانياوفرنسا إلي شرق أوروبا بل تخوفها من تحرير تجارة الخدمات بين الدول الأوروبية. رفض الدستور الأوروبي يعبر عن أزمة عولمة الرأسمالية بشكل أو بآخر وأزمة الرأسمالية الأوروبية بشكل خاص هل هي قادرة علي ايجاد قطب عالمي يناظر القطب الأمريكي أم هي سائرة وهو المرجح إلي قبول قيادة أمريكا أو العولمة علي الطريقة الأمريكية وتصفية مجتمع الرفاهية.