العراق يواجه حكم الفرد والعنف وضعف الجيش بعد ثماني سنوات و9 أشهر و11 يوما علي الغزو والاحتلال الأمريكي للعراق الذي انتهي بالانسحاب التام في 31 ديسمبر 2011.. يواجه العراقيون بلدا «أكثر عرضة للتدخلات الإقليمية، ويعاني أزمات سياسية مستمرة، وتمردا مسلحا تمارسه عشرات الميليشيات، وبرغم تسارع وتيرة الاقتصاد العراقي، لايزال الاعتماد الأساسي قائما علي صادرات النفط.. ورغم الزيادة في الإنتاج والتصدير والعائدات، فتم توفير فرص عمل أقل وتراجع الخدمات الأساسية مثل المياه والكهرباء. فينتج العراق حاليا 9.2 مليون برميل من النفط الخام، بينما معدلات البطالة يقدرها البنك الدولي ب 15% من قوة العمل، إلي جانب النقص في الكهرباء والفساد المستشري، وقد صنفت منظمة الشفافية الدولية العراق علي أنه ثامن أكثر الدول فسادا في العالم، ورغم تراجع العنف بشكل كبير منذ بلوغ ذروته عامي 2006 و2007 خلال المواجهات الطائفية، لكن الانفجارات والاغتيالات مازالت مستمرة، ولايزال العراق من دون وزير للداخلية وآخر للدفاع بسبب الأزمات السياسية التي تعصف بالبلاد، ولم تسمح إلا بتمرير بعض التشريعات في البرلمان، وتبقي أيضا قضايا سياسية أخري عالقة مثل الإصلاح الاقتصادي إذ تسيطر الدولة علي أكبر القطاعات الاقتصادية، وتوزيع الأرباح جرّاء مبيعات النفط، وكذلك المناطق المتنازع عليها والتي تطالب بها الحكومة المركزية في بغداد والحكومة في إقليم كردستان..». وفي حوار مع «حميد مجيد موسي» السكرتير العام للحزب الشيوعي العراقي قال «إن العراقيين يعيشون أياما صعبة جدا في ظروف غاية في التعقيد، فالعلاقات السياسية متوترة جدا، والاقتصاد يعاني شللا تاما، والخدمات في أسوأ حال، والإدارة في فوضي.. ولايزال عدد غير قليل من القوي السياسية يستقوي بالدول الإقليمية والأجنبية لمعالجة مشاكلنا الوطنية». ويضيف الكاتب والسياسي رئيس تحرير صحيفة المدي «فخري كريم».. «إن غياب المفهوم الحقيقي لهوية الدولة والتنازع بين أمراء الطوائف علي التمويه عليها، من خلال التصرف العابث بها علي هواهم وفي إطار المحاصصة «أي حصة لكل حزب وجماعة وطائفة.. إلخ» في تقاسم نهب ثروات البلاد وقضم الحريات العامة والخاصة والتجاوز علي حقوق ومصالح المواطنين، أدت إلي تدوير إنتاج الأزمات والحيلولة دون أي تقدم حقيقي باتجاه إنهاء مراوحة البلاد.. وتتراكم الأزمات منذ بدء الولاية الثانية للسيد نوري المالكي (25 نوفمبر 2010) رئيس مجلس الوزراء، والمرتبطة بنهجه في إدارة الحكم وشئون الدولة بمختلف مرافقها الحيوية، وهو نهج يتميز بالانفراد والتسلط وتغييب الآخرين، خلافا لما اتفق عليه بين الأطراف الرئيسية معه من أسس واشتراطات وتعهدات، ومن أهم ما اتفق عليه في مباحثات اربيل في إطار مبادرة رئيس إقليم كردستان «مسعود بارزاني» اعتماد المشاركة الجدية في اتخاذ القرار، وتغليب روح التوافق الوطني وما تقتضيه من نهج وتوجهات وتدابير، وتجنب السلبيات التي رافقت ولاية المالكي الأولي (مايو 2006)، وكانت في أساس الاعتراضات الواسعة من قبل الكتل السياسية علي منحه الثقة في ولايته الثانية، ومن أبرزها النزوع المتزايد لديه نحو الاستئثار بالحكم والانفراد في اتخاذ القرارات وتغييب الآخرين حتي المقربين منه من دون استثناء أعضاء حزبه وقائمته وكتلة التحالف الوطني»، والمالكي إضافة لرئاسته لمجلس الوزراء وتوليه لوزارتي الدفاع والداخلية فهو «قائد عام القوات المسلحة»! عشية الانسحاب وعشية الانسحاب الأمريكي زادت المخاوف من تدهور الوضع الأمني، رغم تطور المؤسسة الأمنية العراقية وتوجيهها ضربات قوية للجماعات المسلحة خلال عام 2011، فلم يخلوا هذا العام من العنف والاضطراب الأمني، وشهد هجمات متنوعة بين انتحارية بالسيارات المفخخة والعبوات الناسفة، واغتيال لمسئولين حكوميين وضباط في الأجهزة الأمنية، وكانت أكبر عملية نفذها تنظيم القاعدة خلال عام 2011 هي اقتحام مبني مجلس محافظة صلاح الدين في نهاية مارس الماضي، ومقتل أكثر من 70 شخصا وإصابة نحو 100 بجروح، وكان شهر يونيه هو الأكثر دموية للعراقيين والأمريكيين، حيث قتل 271 عراقيا و15 جنديا أمريكيا. كان شبح العنف عشية الانسحاب الأمريكي مصدر خوف وقلق للعراقيين، فقد خلفت الحروب والاحتلال وأعمال العنف المستمرة جيوشا من الأرامل والأيتام والفقراء، بلغ عدد الأرامل في العراق خمسة ملايين أرملة، ووصل عدد الأيتام ثلاثة ملايين يتيم، فضلا عن سبعة ملايين عراقي يعيشون تحت خط الفقر، أي ما يقارب 23 بالمئة من سكان البلاد، إضافة لارتفاع نسبة جرائم الطفولة والتشرد والشذوذ وتفشي الأعراض النفسية في المجتمع العراقي.. ولم يكن العراقيون علي استعداد لمعاناة المزيد من العنف. ولم يكن العنف وحده هو مصدر قلق العراقيين، فالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية تسببت في ظهور مخاوف من نوع آخر، فرجال الأعمال وبعض العاملين في السوق العراقية بدأوا يتحركون لنقل أموالهم للخارج خوفا من وقوع المحظور وعودة تسلط الميليشيات والمسلحين عليهم ومساومتهم علي طريقة «دفع الإتاوات أو ترك العمل»، ففي ظل هيمنة العنف في السابق كان أصحاب المحال التجارية والشركات في بغداد يدفعون الإتاوات إلي المسلحين الخارجين علي القانون ليتمكنوا من مزاولة أعمالهم من دون استهدافهم، ولم يستبعد سكان المناطق ذات الأغلبية السنية عودة نشاط القاعدة إلي مناطقهم كرد فعل علي حملة اعتقالات واسعة للبعثيين السابقين خلال شهري أكتوبر ونوفمبر الماضيين، وانعكاس ذلك بشكل سلبي علي حياتهم الاجتماعية وأعمالهم التي ستتعرض للشلل مثلما حدث في السنوات الماضية، ولجأت بعض الأسر الغنية في بغداد إلي تصفية أعمالها في العاصمة والانتقال للإقامة والحياة في إقليم كردستان، وقال «سمير صالح نهية» عضو رابطة رجال الأعمال العراقيين «شهد سوق العمل والاستثمار تراجعا كبيرا. وغالبية رجال الأعمال في العراق يقفون موقف المتفرج في الوقت الحالي، ويمتنعون عن توظيف أموالهم في أي نشاطات جديدة تحسبا لأي تطورات لاحقة يمكن أن تعيق أعمالهم.. فالذين عاشوا مرحلة صراع الميليشيات والقاعدة في البلاد في السنوات الماضية، ودفعوا أموالا لا بأس بها للجانبين يقومون بدور المراقب في الوقت الحالي بانتظار ما تسفر عنه قضية الانسحاب الأمريكي». وكان العراق قد شهد تراجعا العنف في نهاية العام الماضي، خاصة بعد رحيل القوات الأمريكية عن المدن العراقية وتجمعها في معسكراتها في يونيو 2009، بما أثر سلبا علي شرعية الجماعات المتطرفة التي تقول إنها تقاتل القوات الأمريكية والقوات العراقية الخاضعة لها، ووصل متوسط الحوادث الأمنية في العراق بين صفر إلي سبعة يوميا بالمقارنة بحوالي 180 حادثا يوميا منذ سنوات. العنق مجددا ولكن ومع الانسحاب الأمريكي عاد خطر العنف ليطل من جديد، ففي يوم الخميس 5 يناير - أي بعد خمسة أيام فقط من إتمام الانسحاب، وقعت سلسلة تفجيرات بعبوات ناسفة وسيارات مفخخة في مناطق العاصمة «بغداد» أدت إلي مقتل أكثر من 70 شخصا معظمهم زوار شيعة وسقط ما يقرب من ثلثيهم في منطقة الناصري وجرح 180 آخرين، وفي اليوم التالي قتل ستة أشخاص علي الأقل في تفجيرات في بغداد والموصل، وسقطت قذائف هاون علي المنطقة الخضراء أثناء استعراض عسكري كبير، وأعلن «تنظيم دولة العراق الإسلامية» التابع للقاعدة مسئوليته عن هذه العمليات الإرهابية التي أطلق عليها «غزوة الخميس في ولاية بغداد». وتلعب القوات المسلحة العراقية دورا رئيسيا في مواجهة العنف والأخطار الأمنية الداخلية، نتيجة لضعف قوات الشرطة، وبعد قرار حل الجيش العراقي إثر الغزو الأمريكي وتسريح ضباطه وجنوده، بدأ في بناء جيش جديد وصل حاليا إلي نحو 130000 عنصر (115 ألف قوات برية - 700 قوات جوية - 1100 البحرية - 1500 القوات الخاصة - 11000 وحدات الإسناد القتالية»، ووفقا لبيانات معهد استكهولم الدولي لأبحاث السلام فقد بلغ الإنفاق العسكري العراقي 66.4 ملياردولار عام 2010 صعودا من 08.2 مليار دولار عام 2004 واستورد العراق في السنوات الأربع الأخيرة أسلحة وعتادا عسكريا من كل من الولاياتالمتحدة وألمانيا وفرنسا وبريطانيا وتركيا وروسيا والمجر وبولندا وصربيا وأوكرانيا. لا طيران ولا بحرية ونقطة الضعف الرئيسية تتمثل في عدم وجود قوات جوية، والتي بدأ بناءها من الصفر وتم الاتفاق عام 2010 علي صفقة من طائرات إف 16، وكما هو الحال مع سلاح الجو فقد ظل العراق دون سلاح بحري منذ حرب الخليج الثانية عام 1919، وبدأ العراق في تأسيسه بشراء أربعة زوارق خفر سريعة من إيطاليا، علما أن سواحل العراق لا تزيد علي 58 كيلومترا من أصل حدوده البالغة 3708 كيلومترا. ويقر قادة أمنيون عراقيون أن الجيش غير قادر علي التعامل مع التهديدات الداخلية، ويعجز عن حماية حدوده ومجاله الجوي ومياهه الإقليمية، وأعلن قائد الجيش في وقت سابق أن قواته لن تملك القدرة علي السيطرة التامة علي الأمن قبل عام 2020! والعراق حاليا هو أكبر تاسع مشتري للمعدات العسكرية الأمريكية علي مستوي العالم، ورابع أكبر مشتري في المنطقة بعد إسرائيل ومصر والمملكة العربية السعودية. ويقول «مايكل نايتس» الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدني إن «الجيش العراقي يواجه نزاعات داخلية بين جناح تقليدي قوامه ضباط قوميين، وبين جناح ترعاه إيران وعمله مشلول جراء التعثر السياسي في بغداد وانسحاب الدعم العسكري الأمريكي، وازدهار العراق وارتقاؤه لدولة قوية رهن تذليل جيشه لهذه العقبات». وفي ظل هذه الظروف الصعبة يدور صراع سياسي بين القوي الحاكمة والتحالفات والأحزاب، وهو موضوع الرسالة القادمة.