لم يكن إبراهيم أصلان كاتبا عاديا فقد كان واحدا من أعمدة القصة العربية، منذ أن لفت إليه الأنظار بقصصه المتفرقة التي نشرها في الصحف في حقبة الستينيات، وقبل أن يصدر مجموعته الأولي "بحيرة المساء" التي أشارت إلي أن كاتبا استثنائيا قادم إلي ساحة القصة القصيرة، وهو ما دفع يحيي حقي إلي تبني ذلك الشاب الموهوب ونشر قصصه في مجلة "المجلة" التي كان حقي يرأس تحريرها في ذلك الوقت، بل إن مجلة "جاليري 68" التي كانت معنية بتقديم جيل الستينيات قدمت ملفا خاصا عن أصلان وهو لم ينشر كتابا بعد. إنها الموهبة الطاغية التي تفرض حضورها منذ اللحظة الأولي، كانت لديه قدرة باهرة علي تحويل العادي من المشاهد إلي نصوص سردية بالغة الفتنة والطرافة، حتي إن القارئ يندهش: كيف لم تلفت هذه المشاهد اليومية نظره من قبل وكيف لم يكتشف ذلك الجمال الكامن في التفاصيل اليومية العابرة لهؤلاء الشخوص. كان أصلان كالساحر القادر علي إبهار قراء نصوصه من نقاد وقراء عاديين بقدرته علي اكتشاف الجمال فيما يبدو أن لا جمال فيه، ولكنها قدرة الكاتب الفذ علي اكتشاف الجمال في كل شيء حوله. لقد كانت أعمال أصلان قطعا من الجمال الصافي، ورغم إصراره الدائم علي التجريب الذي يسم أعماله ويميزها فإنه لم يقع في فخ الغموض أو الإبهام، فخلق نسقا جديدا من التجريب الذي لا يبتعد إطلاقا عن حياة الناس وآلامهم، ولا يتعالي إطلاقا علي أفهامهم وذائقتهم، إنه نوع من التجريب الشعبي، الذي يتوجه للنخبة وحدها، ويمد جسور المودة والتلاقي مع الناس، أولئك الناس البسطاء في الكيت كات، الذين عاش أصلان بينهم، وظل حضورهم طاغيا في معظم أعماله، فلا أحد يستطيع أن ينسي "مالك الحزين" ولا "عصافير النيل" وانشغالهما بهموم هؤلاء البشر الذين يستحقون التمثيل داخل المشهد السردي، ولم يكن ليقم بهذه المغامرة سوي العم ابراهيم أصلان الذي ينتمي للناس ولم يسع يوما إلي سلطة ليرتمي في أحضانها كما فعل غيره كثيرون من المثقفين. كان أصلان يهوي تكسير الأطر الثابتة، يكره القواعد، يدمرها تماما، ويقتلعها من جذورها ولكن برهافة بالغة، فيمر الأمر علي قرائه وكأنه نومهم مغناطيسيا، حتي يحبوا التجريب معه، ويشاركوه مغامراته الإبداعية الاستثنائية، لقد كسر الرجل قواعد التصنيفات النوعية من قصة ورواية وسير ذاتية إلي آخره، كما اجتاز تلك السدود المصطنعة والوهمية بين السرد وغيره من الفنون كالسينما والشعر..إننا بافتقاده نفقد واحدا من سحرة السرد ولاعبيه الكبار ولكن أعماله ستظل باقية أبدا، لتقول إن كاتبا كبيرا كان موجودا هنا وترك إرثا باذخا يقف في وجه الزمن شامخا.