في هذا السياق المحموم الذي تتأرجح فيه أهداف ثورة 25 يناير 2011 وانعدام آيات الوفاق تحتدم خلافات المصالح الحزبية والفئوية وتتألف وزارة لإنقاذ الوطن. وفي داخل هذه الوزارة وما سبقها من وزارات يتجلي النشاط الوزاري في محاولة كل وزير السعي الحثيث إلي اتخاذ ما يراه من سياسات ومشروعات يسعي من خلالها إلي تخليد اسمه ، بصرف النظر عن كونها من أولويات التطوير في محيط تخصصه الوزاري. سوق تلك المقدمة لنواجه مسيرة الإنجاز التي يقوم بها السيد الأستاذ جمال العربي وزير التربية والتعليم، والذي لم يمض عليه في الوزارة أكثر من ثلاثة أشهر وفي رغبته عمل مشهود يرتبط باسمه وبمنجزاته. وحسب معلوماتي التي استند فيها إلي ما ورد في الصحف، أولها تصريحه بأنه سوف يقوم بعملية إصلاح وتطوير شامل لكل مناهج التعليم في ستة أشهر. ومنذ خمس سنوات كنت في الصين، وكانوا قد بدءوا في إصلاح مناهج التعليم مرحلة مرحلة، فسألت عن الفترة التي استغرقتهم في إنهاء إعادة كتابة مقررات التعليم الابتدائي. وكانت الإجابة سنتين. والمطلوب ليس مراجعة سطحية للمناهج، أي مجرد حذف هذا وإضافة ذاك، كما جري العرف في عملية التطوير. العملية الثانية التي أنجزها سيادته خلال الفترة القصيرة الماضية اهتمامه الكبير بالأحوال المادية للمعلمين. لقد أشارت الصحف إلي أن سيادته قد أجري حوارات واتفاقات مع المعلمين ونقاباتهم مما سيعرضه علي مجلس الوزراء لكي يكون الحد الأدني لمرتب المعلم (1200) جنيه، والحد الأقصي هو (38) مثلاً للحد الأدني. وفي خبر آخر تشير إحدي الصحف إلي أن الدكتور صفوت النحاس رئيس الجهاز المركزي للإدارة قد تقرر الحد الأدني للأجور الحكومية ليكون (834) جنيهاً. وأحسب أن هذا سيكون الحد الأدني لأجور المعلمين إلا إذا استطاع سيادة الوزير الجديد جعل الحد الأدني لمرتب المعلم (1200) جنيه كما جاء اتفاقه مع المعلمين أي بزيادة (366) جنيهاً عن تقدير الجهاز المركزي للإدارة، ولا أحد منا يتردد في مضاعفة أجور المعلمين ووضع كادر جديد برفع الحد الأدني حتي إلي 2000 جنيه، كما طالبت بذلك في الاجتماع الأخير للمجلس الأعلي للتعليم قبل الجامعي، ومعه شرط مهم للغاية وهو الامتناع عن الدروس الخصوصية وتجريمها. وفي جميع الأحوال لا بد من أن يطمئن المعلم إلي أنه يأخذ الجزاء الوفاق العادل حقاً لأداء رسالته العظيمة والتمتع بحياة كريمة، دون اللجوء إلي بيع تعليمه سلعة تهدر كرامته. تصور غريب ونعود أخيراً إلي أحدث ما أذهلنا به السيد الوزير جمال العربي، من تصور غريب مفاجئ لبنية التعليم، كما ورد في صحيفة الأهرام بتاريخ 2/12/2011، وكأنما كان ذلك هديته لتطوير التعليم في العام الجديد. ويشير خبر الصحيفة إلي أن وزير التربية والتعليم قد قام بتشكيل لجنة من قيادات الوزارة لتبدأ العمل في إعداد مشروع جديد لنظام الدراسة بالمرحلة الثانوية العامة، بديلاً عما احتل ساحة التعليم الثانوي العام منذ عام 2008 في شأن نظام امتحانها، وما ينبغي أن تتضمنه موادها الدراسية من موضوعات أكاديمية، والذي كان من المفترض تطبيقه في عام 2013. ويطرح سيادته تصوراً مغايراً تماماً لما سبق مناقشته بل اعتماده من مجلس الوزراء . وتمثلت معارضة ذلك المشروع الذي سبق اعتماده قبل ثورة الشباب في كل من تصنيف المواد وفي اختبارات القدرات النوعية مما استغرق عدة جلسات ومشاورات انتهت إلي تصور معقول لدي لجنة التعليم في مجلس الشعب في نهاية دورته لعام 2005. وقد كنت أحد مستشاري اللجنة، وتم وضع تقرير نهائي شاركت فيه مع أ.د.شريف عمر رئيس اللجنة. وهو في قناعتي يستحق الإفادة منه في أي محاولة لتطوير الثانوية العامة وامتحاناتها. ومع كل الجهود التي بذلت في ذلك المشروع بتعجل السيد وزير التعليم لإنقاذ التعليم في تصور جديد لاهث مما يغلب علي معظم طموحاته وقراراته. وهو مشروع لا علاقة له بما دار خلال سنتين من مناقشات وتقارير سابقة حول محاولة التوفيق بين المسائل الأكاديمية وقدرات متابعة التعليم الجامعي وقاعدة العدالة في محتوياته وتنظيمه. وقرأت في إحدي الصحف أيضاً أن مشروع الوزير الجديد قد عرض علي السيد الدكتور وزير التعليم العالي أ.د حسين خالد، وكان انطباعه الأول بأنه مشروع جيد تنقصه الدراسة التفصيلية وإجراءاتها. ويصرح وزير التربية والتعليم بأن لجنة من قيادات الوزارة بعد الانتهاء من صياغته المرحلية خلال هذا الأسبوع، سوف تتم مناقشته مع الخبراء التربويين، قبل طرحه للنقاش العام في أوساط المعلمين وأولياء الأمور، تمهيداً لوضعه في صورته النهائية كمشروع قانون يرفع إلي مجلس الوزراء لإحالته إلي مجلس الشعب. وفي حالة إقراره سوف تحدد مواعيد بدء تطبيقه العملي. ويعجبني في سيادته تفاؤله الخصيب بمرور المشروع في سكة السلامة والاعتماد. وتفاصيل المشروع كما وردت في بيانه الصحفي يستهدف اقتحام منظومة التعليم من المرحلة الثانوية لتكون أربع سنوات، يتم خلال السنة الثالثة امتحان عام للثانوية العامة في جميع المواد الأدبية والإنسانية والتخصصية في أي من العلوم والرياضيات وهو امتحان الثانوية العامة وفيه يجب علي الطالب أن ينجح الطالب بنسبة مئوية معينة في المجموع الكلي ومن ثم يتحدد بناء عليها الانتقال إلي السنة الرابعة الإضافية، حيث تقتصر الدراسة فيها علي مواد التخصص المؤهلة للالتحاق بالكلية المناظرة لتخصصه في الجامعات. ويشترط أن يؤدي الامتحان في هذه المواد التخصصية في الأشهر الأربعة الأولي من السنة الرابعة. ويكون لدي الطالب فرصة أخري للتقدم للامتحان إذا لم ينجح في المرة الأولي: وسوف يكون المجموع الكلي للطالب محصلة لنتائجه في الثانوية العامة مضافاً إليها نتائج السنة الرابعة التخصصية، دون تحديد أو إشارة لنسبة كل من العام والتخصصي في المجموع الكلي للطالب الذي يؤهله للإلتحاق بالجامعة!!. ومن مستوي الثانوية العامة ورباعيتها المؤهلة ينتقل المشروع إلي بداية السلم التعليمي حيث يري أن يبدأ السلم التعليمي الإجباري من القبول في المرحلة الإبتدائية من سن الخامسة بدلاً من السادسة من عمر الطفل، مع بقاء مدة سنوات الدراسة بها ست سنوات، ومدة الإعدادية ثلاث سنوات ومدة الثانوية أربع سنوات، ويصبح طول السلم التعليمي 13 سنة بدلاً من 12 سنة. خسائر بالجملة وأحسب أن تعديل منظومة التعليم قبل الجامعي سوف يؤدي في الصورة المقترحة إلي: (1) زعزعة في بنية هذا التعليم لما تتطلبه من تعديل في المناهج، والكتب الدراسية، وتوزيع المعلمين، وصعوبات الأطفال في سن الخامسة في الذهاب والعودة إلي المدرسة بمفردهم، وبخاصة لدي الأسر الفقيرة والمستورة. هذا إلي جانب صعوبات التركيز والانتباه في هذه السن المبكرة، وفي أداء الواجبات المنزلية. وقد يؤدي الالتحاق في سن الخامسة إلي مزيد من معدلات التسرب، وقد يمتد إلي صعوبات في إعداد مدرسي المرحلة الابتدائية ومراجعتها في كليات التربية لهذه المرحلة. (2) ومن المتوقع أيضاً أن تزداد كثافة الفصول، لأن شريحة السكان فيما بين (5 - 11سنة) أعلي ما تكون من شريحته من (6 - 12 سنة). (3) وفي قمة البنية المقترحة تحدث هزة واضطرابات في نفس المواقع السابقة، وبخاصة في المناهج بين التخصصات في مرحلة الثانوية العامة (السنة الثالثة) وبين هذه التخصصات في السنة الرابعة. كما يعني عقد ثلاثة امتحانات في نهاية المرحلة، إحداها لجميع طلاب الثانوية العامة والتي إذا نجح فيها بمستوي معين يلتحق بالصف الرابع. هذا فضلاً عن اثنتين للتأهيل والالتحاق بالكلية الجامعية المناظرة. وقد يزداد الاضطراب حين يتخرج طلاب السنة الرابعة بالمستوي المطلوب ولا تتوافر لهم أماكن في الكليات المنشودة. (4) وقد يري البعض أن نظام الثانوية العامة في امتحاناته الثلاثة إنما يعني غربلة ثلاثية للطلاب المؤهلين للالتحاق بالجامعات، مما يؤدي إلي تخفيض عدد من يلتحقون بها ولهذا أبعاده ومعاييره التي تتنافي مع تكافؤ الفرص. ومع إنغماس المشروع في امتحانات الثانوية العامة نسي ما ينبغي من تطوير للتعليم الفني وامتحاناته، وهو دون شك قسط مهم من مرحلة التعليم الثانوي عدداً وأهمية. (5) ولست أدري إذا كان ثمة أي تفكير مبدئي في التمويل المادي الذي يتطلبه تطبيق هذا المشروع. ويبدو أهمية ذلك من مجرد زيادة السنة الرابعة وإعداد مدرسيها في التخصصات والمعامل والتكنولوجيات وامتحاناتها. وليس من المقبول عدلاً أن يتم امتحاناتها في المدارس ذاتها لما قد يثيره ذلك من شكوك في كفاءة نتائجه وعدالتها!!). وقد تساءلنا من قبل إلي موقع الطلاب في الفوج الثاني من السنة الرابعة، هل يلتزمون بالحضور إلي المدرسة لتجويد مستوياتهم أم يبقون في منازلهم ومع محنة مراكز الدروس الخصوصية. (6) ومن المتوقع أن تكون السنة الرابعة بمجموعيتها مجالاً خصباً للدروس الخصوصية مرحباً به من جميع مدرسي التعليم الثانوي إلا من رحم ربك. ولن يحدث مايتمناه الوزير في تفاؤله من أن هذا النظام الجديد في حالة إقراره (هدفه مصلحة الطالب وأولياء الأمور والحد من ظاهرة الدروس الخصوصية). إفقار الموارد (7) ونؤكد هنا كذلك علي مسألة تكلفة الطالب في المرحلة الثانوية في النظام المقترح والتي يتوقع أن تتضاعف من حوالي (5آلاف) جنيه سنوياً إلي ما يقرب من (10آلاف) ومن ثم سوف يلتهم التعليم الثانوي أكثر من ثلث ميزانية التعليم قبل الجامعي، مما يؤدي بالضرورة إلي إفقار الموارد المتاحة للمرحلتين السابقتين. هذا في الوقت الذي تتقلص فيه ميزانية التعليم بكل مراحله من 4.5% من الناتج المحلي الإجمالي إلي 3.2% . (8) ونشير هنا إلي أهمية تقدير أن 6% من الناتج المحلي الإجمالي كميزانية عامة للتعليم علي الأقل حسب تقدير منظمة اليونسكو، إذ أريد للتعليم أن يتحرك نحو تغيير في كفاءته وتحسين في مخرجاته. ومن ثم تفرض هذه النسبة ضرورة نمو ميزانية التعليم من المصدرين الحكومي وأصحاب رءوس الأموال من الأغنياء ومن مشاركات المجتمع المدني والمعونات العربية والأجنبية. ويتم التركيز خاصة مضاعفة الموارد المخصصة للأبنية المدرسية لتقليص ظاهرة كثافة الفصول في معظم المناطق. (9) ولعلنا لا ننسي أخيراً ما سوف يحدث لنظام رياض الأطفال من زعزعة في سنتيه من (5 سنوات إلي أقل من 6 سنوات) ليصبح (من 4- إلي أقل من 5 سنوات). (10) وتأسيساً علي تلك كل الصعوبات وغيرها، أري أن يؤجل السيد الوزير مشروعه، وأن يتصدي لمشروعات وسياسات جديرة بالأولوية تحقق التحول إلي تعليم ديمقراطي عادل. ودعنا نتذكر بعض ما قال الشاعر: إنا نحب الورد لكن القمح منه أجدر ونحب عطر الورد لكن السنابل منه أطهر والله من وراء القصد.