احاط بفوز القوي الاسلامية في بلدان الربيع العربي - سواء كان هذا الفوز انتخابيا او عسكريا - كثير من التساؤلات. اخطر هذه التساؤلات واكثرها استعصاء علي التفسير ما يتعلق بما ظهر واضحا من نتائج "الثورات" العربية حتي الوقت الحاضر. فان بعض "الثورات" تغلب علي النظام الذي واجهه عن طريق الفوز بتأييد من الامبريالية الغربية ممثلة في النظام الأمريكي وفي حكومات ونظم البلدان الاوروبية، خاصة تلك التي تتمتع بعضوية حلف الاطلسي. حدث هذا في مصر وقبلها في تونس وبعد ذلك في اليمن. وفي هذه الحالات الثلاث لا تزال الثورة في طريق السير نحو اهدافها ولا سبيل الي التاكيد علي انتصار نهائي لها. وبعض "الثورات" تغلب علي النظام الذي جرت المواجهة معه عن طريق اللجوء الي طلب تدخل القوي الامبريالية صراحة ممثلة في حلف الاطلسي بقيادة الولاياتالمتحدة. حدث هذا في ليبيا حيث دخلت القوات العسكرية لحلف الاطلسي -القوات الجوية والقوات الخاصة والبحرية- الي جانب القوي الاسلامية ومن بينها تنظيم القاعدة، الذي لا يزال يخوض حربا لاتبدو لها نهاية في مواجهة بالغة العنف مع القوات الأمريكية وقوات الدول الغربية التي تناصر الولاياتالمتحدة. ويوشك هذا المسار نفسه ان يتحقق في سوريا. ولا شك ان البحث عن تفسير لهذه الروابط الجديدة بين الامبريالية العالمية والجماعات الدينية مثل الاخوان المسلمين والسلفيين في مصر ومثل القاعدة والجماعات الاسلامية الاخري في ليبيا وسوريا يقابل بالنفي من جانب المنظمات والجماعات الاسلامية. ولكن الولاياتالمتحدة والدول الاوروبية لا تنكر ولا تخفي هذا التحالف مع الاسلاميين في بلدان ثورات الربيع العربي، بل انها تتحدث عن صعود الاسلاميين انتخابيا باعتباره امرا جديرا بالترحيب، كما تتحدث عن الاسلاميين باعتبارهم تنظيمات جديرة بالاحترام، وعن تطلعها الي التعاون معهم عندما تصبح السلطة في ايديهم. ولعل اقرب الاحتمالات ان نعتقد ان هذه ظاهرة جديدة. ولكن الحقيقة ان الامبريالية - الأمريكية خاصة- تحالفت في السابق مع حكومات قامت علي اساس التحالف مع تيارات دينية اسلامية، علي نحو ما حدث في اندونيسيا في النصف الاول من عقد الستينات من القرن الماضي عندما تحالفت الولاياتالمتحدة ودول الغرب ضد الرئيس الاندونيسي العلماني احمد سوكارنو ونظامه المناهض للامبريالية والداعي الي اقامة نظام سياسي واقتصادي اشتراكي. قتل اليساريين وفي المقابل تحالفت هذه القوي مع الرئيس الانقلابي سوهارتو الذي استند الي اليمين الديني الاسلامي في اندونيسيا. وقد تمكن هذا التحالف خلال فترة زمنية قصيرة من قتل ما يربو علي مليون من اليساريين الاندونيسيين. الامر الذي قوبل بترحيب شديد من جانب الولاياتالمتحدة. هذا طبعا بالاضافة الي تحالف أمريكا مع تنظيم القاعدة في حربه ضد حكومة افغانستان الاشتراكية التي كان يساندها الاتحاد السوفيتي في ثمانينات القرن الماضي. ونستطيع ان نضيف ايضا تحالف الامبريالية الأمريكية مع التيارات الدينية طوال سنوات حكم جمال عبد الناصر وتوجهاته لمناصرة الطبقات الفقيرة -العمال والفلاحين - وحربه المتواصلة ضد اسرائيل . المهم ان الولاياتالمتحدة في سنة ثورات الربيع العربي عادت الي وصف الاسلاميين في مصر وخاصة الاخوان المسلمين بانهم "معتدلون" وبانهم "جديرون بالاحترام والتأييد" في حالة صعودهم الي السلطة في مصر بعد نتائج الانتخابات المصرية الاخيرة. وقد اظهرت الولاياتالمتحدة قدرة فائقة علي التحول السريع من التحالف مع النظام الاستبدادي الذي كان يرأسه حسني مبارك الي اظهار هذا الموقف الجديد من الاخوان المسلمين وازدياد الاتصالات معهم عبر زيارات كبار المسئولين والقادة العسكريين الأمريكيين لمصر وعبر نشاطات السفارة الأمريكية في القاهرة، فضلا عن الرحلات السرية وشبه السرية لزعماء الاخوان الي الولاياتالمتحدة (حتي اثناء سنوات حكم مبارك الاخيرة). كذلك فقد اظهرت الولاياتالمتحدة استعدادها لتأييد مشاركة الاخوان المسلمين في السلطة في حالة ما اذا استوجب الوضع السياسي الناتج عن الانتخابات مثل هذا المنحي. تعهدات لواشنطن ويلاحظ في هذا الصدد ان الولاياتالمتحدة لم تعد تعلن خشية من ان يستمر الاخوان المسلمون في سياسة معارضة لاسرائيل، الامر الذي يدل علي ان الاخوان قدموا لواشنطن تعهدات بعدم السير في هذا الطريق اذا استمرت الولاياتالمتحدة في دعمهم كقوة سياسية تمارس الحكم او تشارك فيه. ومعناه ايضا ان الاخوان تعهدوا للمسئولين الأمريكيين بان يصلوا في اعتدالهم الي حد دعم حروب الامبريالية ضد القوي العلمانية ذات التوجه الوطني بين الجمهوريات العربية (علي حد تعبير المفكر اليساري الأمريكي جيمس بيتراس في بحث له نشره موقع "انفورميشن كليرنغ هاوس" علي شبكة الانترنت يوم 12 ديسمبر الحالي بعنوان "التحالف بين واشنطن والاسلام المعتدل".) ويقول بيتراس - وهو استاذ علم الاجتماع في جامعة بنجهامبتون الأمريكية في نيويورك- ان هذا التحالف يعطي "للاسلاميين مسئولية فرض سياسات اقتصادية اورثوذكسية واعادة تاسيس نظام يدعم النظام القائم مع اقتصاديي البنوك وانصار الولاياتالمتحدة والاتحاد الاوروبي من الجنرالات ومسئولي الامن. وفي المقابل يحصل الاسلاميون علي مناصب وزارية معينة ويتولون تعيين اعضائهم وفرض جدول اعمالهم المالي والاجتماعي والثقافي". ويضيف المفكر الأمريكي ان الولاياتالمتحدة والاتحاد الاوروبي "يساندون الاسلاميين المعتدلين في جهودهم لازاحة الانتفاضات الشعبية التي يقوم بها الشبان والعاطلون ...وباسم الديمقراطية وباسم التدخل لاغراض انسانية فانهم يطلقون حلفاءهم الاصوليين من اجل تدمير خصومهم المستقلين". علاقة معقدة ويشرح بيتراس ما يعنيه بخصوم الاسلاميين بانهم اولئك الذين يتخذون مواقف وطنية وطبقية يرفضها الاسلاميون. وهو يؤكد ان العلاقة بين نظم الحكم الاسلامية - التي برزت نتيجة لثورات الربيع العربي -والامبريالية علاقة معقدة للغاية وتشكل تغييرا كاملا عن نهج الصراع الدموي. ولهذا فان استمرار الولاياتالمتحدة في علاقة تعاون او في علاقة صراع مع المسلمين المعتدلين انما يتوقف علي السياق السياسي المحدد لهذه العلاقات. "الامبريالية الأمريكية تتحالف مع الاسلاميين حينما تكون في مواجهة مع النظم والحركات الديمقراطية اليسارية والعلمانية". ويؤكد المفكر اليساري الأمريكي ان أمريكا "تصر علي ان يلتزم هذا التحالف مع الاسلاميين بسياستها تجاه اسرائيل وان يتخلي عن تقديم الدعم للفلسطينيين والنضال الوطني الفلسطيني ...ولهذا فان التحالف بين الامبريالية الأمريكية والاسلاميين يبقي مهددا بالانهيار في حالة ما اذا تعمقت التوترات والصراعات المتعلقة بالنضال الوطني الفلسطيني". تحاشي انتصار الثورات والامر الذي ينبغي ان يكون واضحا عند النظر في امر هذا التحالف انه علي الرغم من نجاح الامبريالية الأمريكية والاوروبية في اقامة علاقة مشاركة مع الاسلاميين فان الازمات الاقتصادية التي تخيم علي البلدان الامبريالية، وكذلك ارتفاع معدلات البطالة والفقر في البلدان العربية ستجعل من الصعب علي الاسلاميين الذين يصفهم الأمريكيون الان بالاعتدال ان يحققوا استقرارا في المجتمعات التي يصعدون الي السلطة فيها. ويذهب جيمس بيتراس الي "ان الاسلاميين قد يلجأون الي محاولة التعاون مع بعض الليبراليين العلمانيين والديمقراطيين الاجتماعيين وحتي مع قلة من اليساريين، ولكن غرضهم الرئيسي من وراء ذلك سيكون الهروب من تحمل المسئولية وحدهم عن تدمير امال الفقراء في بلدانهم". لقد نجح الامبرياليون - أمريكيين واوروبيين- بصورة مؤقتة في تحاشي انتصار الثورات بان ساندوا الاصلاحات الانتخابية وساندوا الاسلاميين في الانتخابات كما قبلها، ولكن استمرار التدخلات العسكرية من جانبهم مع استمرار الازمات الاقتصادية لن يؤدي الا الي مجرد تأجيل صراعات اكثر حسما لابد ان تقع وفي المستقبل القريب.