ترجمة: طلعت الشايبهذا فصل من كتاب بعنوان «أدب الحرب الباردة»: كتابة الصراع الكوني "Cold War Literature: Writing the Global Conflict». الصادر ضمن سلسلة أدب القرن العشرين عن دار نشر Routledge في 2009 وتصدر ترجمته عن المركز القومي للترجمة قريبا، بعد أن انتهي منها طلعت الشايب. يتناول الكتاب الذي قام بتحريره أندرو هاموند (الأستاذ بجامعة ويلز)، أعمال مؤتمر عقد في جامعة «وورويك» في بريطانيا في يونيو 2002 تحت عنوان «مابعد الشيوعية: النظرية والتطبيق»، شارك فيه عدد من النقاد والباحثين من الشرق والغرب، وتناول قضايا تنوعت بين التمثيل والقومية والمقاومة السياسية والعولمة والشك الايديولوجي، مع التركيز علي الأصوات التي انطلقت من المناطق المهمشة في الحرب الباردة، وذلك من خلال أوراق بحثية متعمقة عن «تمثيل الغرب في الأدب الروسي أثناء الحرب الباردة» و«القلق النووي في أدب ما بعد الحداثة في أمريكا» و«الرواية التاريخية في الاتحاد السوفيتي وإفريقيا ما بعد الاستعمار» و«الشعر والسياسة والحرب: تمثيلات الحرب الأمريكية في الشعر الفيتنامي و«تذكر الحرب والثورة علي المسرح الماوي» و«الوسط المستبعد: المثقفون والحرب الباردة في أمريكا اللاتينية»، وهذا الفصل بعنوان : المقاومة الأدبية الماركسية للحرب الباردة . المحرر في صباح العشرين من يونيو 1951، انطلق مائة من منتسبي مكتب المباحث الفيدرالي (FBI) من مقره في "فولي سكوير - مانهاتن" عند الفجر، احكموا أزرار ستراتهم الرمادية الواقية من المطر، وقفزوا ليحتلوا أماكنهم في أسطول من سيارات البويك التي كانت في انتظارهم. منتشرين في أرجاء مدينة نيويورك في عملية جيدة التنظيم، قاموا بتطويق عشرين مسكنا خاصا واقتحموا غرف النوم ليجروا ستة عشر من قيادات الحزب الشيوعي إلي السجن متهمين، بحسب "قانون سميث Smith Act"، بقلب نظام الحكم في الولاياتالمتحدة بسبب ما يقومون ببثه ونشره. كانت تلك هي المجموعة الثانية من أعضاء الحزب الذين يلقي القبض عليهم بموجب هذا القانون. كان من بين المقبوض عليهم "في. چي. چيروم V. J. Jerome" رئيس اللجنة الثقافية للحزب ورئيس تحرير مجلة "Political Affairs". بعد شهر، أطلق سراح "چيروم" مؤقتا بعد أن دفع ستة أشخاص كفالة عن طريق حوالة بريدية، وسرعان ما نشرت صحف مثل "نيويورك تيمز" وغيرها أسماءهم. مثل هذا الكشف العلني عن الأسماء كان وسيلة مؤثرة لإرهاب من قد تسول له نفسه تقديم العون "لمخربين" مزعومين مثل "چيروم"، والآن كان هناك سبب كاف لجعل أولئك الستة يخشون ويتوقعون استهدافهم لاحقا، وذلك بإدراج أسمائهم علي القائمة السوداء إلي غير ذلك من المضايقات، وما حدث بالفعل هو أن كانت مؤشرات علي أنه سيضحي بهم بواسطة المكارثية أو أنهم سيبدون شجاعة سياسية غير عادية. الأنشطة المعادية كان أولئك الستة في قضية كفالة "چيروم" هم: "آليس چيروم Alice Jerome" زوجة الزعيم الثقافي للحزب ومديرة روضة أطفال، والكاهن "إي. وايت E. White" وكان وزيرا يساريا، و"هربرت أپتكر Herbert Aptheker" مؤرخ الحزب الشيوعي، وكان يعمل مع "چيروم" في "پوليتكال أفيرز" وكان اسمه علي القائمة السوداء بالفعل، والروائي الماركسي الشهير "هوارد فاست Howard Fast"، وكان قد أمضي فترة بالسجن قبل عام لعدم تعاونه بالإبلاغ عن آخرين، كما كان اسمه أيضا علي القائمة السوداء وممنوعا من النشر أو الكلام في الحرم الجامعي، و"والدو سولت Waldo Salt"، كاتب السيناريو الشيوعي الذي كان قد سبق أن استدعي للمثول أمام لجنة التحقيق الخاصة بالأنشطة المعادية لأمريكا "HUAC" - (House Un-American Activities Committee) في "واشنطن دي سي" في 1947 بعد أن كتب فيلما سينمائيا بعنوان "راشيل والغريب Rachel and the Stranger"، اعتمد فيه علي قصص "هوارد فاست" القصيرة، وكان اسمه كذلك مدرجا علي القائمة السوداء، و"باربرا چيلز Barbara Giles"، وهي كاتبة وناقدة من مواليد "لويزيانا"، وكانت قد أصدرت قبل أربع سنوات رواية تاريخية ناجحة عن الجنوب الأمريكي والتفرقة العنصرية عند منعطف القرن، كما عملت في وظائف تحريرية عدة في مطبوعات شيوعية مثل: "New Masses" (الجماهير الجديدة) و"Masses and Mainstream" (الجماهير والتيار الرئيسي). الحمر الحقيقيون علي مدي خمسين سنة منذ تلك اللحظة المثيرة مازال اضطهاد الشيوعيين في حقبة "مطاردة الساحرات" المكارثية إبان الحرب الباردة، يعتبر أمرا مؤسفا، حتي الهجوم علي الشيوعيين الحقيقيين حملة بطاقات الحزب الرسمية مثل "چيروم" و"فاست" و"أپتكر" و"سولت" و"چيلز" يعتبر بالمثل أمرا يدعو للخجل، ويحدث ذلك - للأسف - بالرغم من أن معظم الكتب والأفلام الناقدة للقوائم السوداء وعمليات الإضطهاد مازالت تنحو إلي التركيز علي حالات المتهمين زيفا بعضوية الحزب الشيوعي، وليس علي "الحمر الحقيقيين". علي نحو أكثر إيجابية، نجد بعد عقد أو أكثر من محاولات المحو وتشويه السمعة، نجد محاولات لإعادة الاعتبار لعدد قليل من أولئك الشيوعيين المضطهدين. "أپتكر"، علي سبيل المثال، حقق اعترافا قوميا به من خلال عمله المخلص كمنفذ أدبي لوصية "دبليو. إي. دو بوا W. E. Du Bois"، ومنح منصبا جامعيا عندما اقترب من سن التقاعد في "وست كوست". الكاتب الشيوعي الشهير في حقبة مطاردة الساحرات"، "هوارد فاست"، كافح في البداية لكي يستعيد نشاطه، وعندما ألغت دار نشر "Little Brown & Co." - لأسباب سياسية - عقد نشر روايته "سپارتاكوس Spartacus" (1951)، (وكان قد بدأ كتابتها أثناء سجنه)، قام بإصدارها عن دار النشر الخاصة به "Blue Heron Press" لتكون أفضل الكتب مبيعا في تاريخ الأدب في قطاع النشر الخاص. كذلك حقق "والدو سولت" عودة قوية في السينما بأعمال مثل: "Midnight Cowboy" (1969)، و"Serpico" (1973)، و"Day of the Locust" (1975)، و"Coming Home" (1978)، وغير ذلك من الأعمال المتميزة، وترشيحات للجوائز، حتي "چيروم" الذي كان موظفا في الحزب، نجد عنه اليوم مادة جيدة تحتفي به في الموسوعات التاريخية للحركة الشيوعية الأمريكية؛ كما تروي "ليليان هيلمان Lillian Hellman" بعض النوادر الطريفة في "Scoundrel Time" (1976) عن تجربته في السجن، أسستها علي المعلومات التي نقلها إليها صديقه ورفيقه في السجن، الشيوعي وكاتب روايات الألغاز "داشيل هاميت Dashiell Hammett". إلا أنه من الدال أن تظل روائية لويزيانا الحمراء "باربرا چيلز Barbara Giles" غائبة من التاريخ الأدبي. في سنة 1992 نشرت دار نشر جامعة لويزيانا كتابا مرجعيا من 350 صفحة عن كاتبات لويزيانا "Louisiana Women Writers"، من بين مادته ببليوجرافيا واسعة ليس فيها كلمة واحدة عن "چيلز"، ولا عن روايتها "The Gentle Bush" المعارضة للعنصرية (صدرت عن Harcourt, Brace and Co. في 1947 وتقع في 550 صفحة) ولا عن المراجعة التي نشرتها عنها "نيويورك تيمز" وغيرها من الصحف المهمة، كما لا يوجد أي ذكر لنقدها الأدبي الماركسي المهم لكُتَّاب الجنوب، وهو من الكتب الفريدة عن تلك الفترة في تاريخ النقد في الولاياتالمتحدة، وبعضه هناك إشارة إليه في فهرست كتالوج الاتحاد The Union Catalogue. علي النقيض من ذلك نجد هناك إشارات كثيرة لكاتبات أخريات أقل قيمة منها وصلتهم ب "لويزيانا" ليست علي نفس الدرجة من الأهمية. ربما - إذن - يكون توسل اسم "چيلز" المطموس - بفعل فاعل - وعملها المغتال أسلوبا مناسبا لبدء عمل شاق في اتجاه إعادة الاعتبار للتاريخ الأدب لمئات الأعمال الثقافية اليسارية في الولاياتالمتحدة ولأصحابها الذين قاوموا المكارثية بالكتابة والفعل. انبعاث النشاط المعادي لأمريكا: قد يري البعض أن الثقافة الراديكالية المقاومة لمطاردة الساحرات في أواخر الأربعينيات وفي الخمسينيات، هي التي تعبر عن حقبة النشاط المعادي لأمريكا. بالرغم من ذلك فإن واحدة من أحدث الدراسات تري أن الأربعينيات والخمسينيات كلها، وليس المكون اليساري أو الأفرو- أمريكي منها فحسب، تظل مجهولة نسبيا في إطار التاريخ الثقافي للولايات المتحدة. من المثير للسخرية مثلا أن نجد مرحلة الحرب الباردة، مثل النهضة الأمريكية في القرن التاسع عشر، ممثلة في الدراسات الأكاديمية التقليدية علي أعتبار أن السيادة فيها كانت لقلة من الكُتَّاب الذكور الذين تجاوزوا الأعراف الأدبية علي نحو بطولي. من بين من يحظون باهتمام بالغ من هؤلاء "نورمان ميلر Norman Mailer" و"صول بيلو Saul Bellow" و"وليم ستيرون William Styron" و"چي. دي. سالنجر J. D. Salinger" و"چون أپدايك John Updike"، ويلحق بهؤلاء مجموعة قليلة من الراديكاليين الأفرو أمريكيين (مثل المناصرين السابقين للشيوعية "رالف إليسون Ralf Ellison" و"چيمس بولدوين James Baldwin") وامرأة يشار إليها أحيانا بشكل رمزي ب "القوطية الجنوبية" هي "فلانري أوكونر Flammery O'Connor. هذا الفشل في الإلمام بكل جوانب حقبة النشاط المعادي لأمريكا صحيح، حتي بين من عرضوا للمرجعية الثقافية في السنوات الأخيرة، فلو تناولنا بالفحص - علي سبيل المثال - أعمالا حديثة مثل: "Columbia Literary History of the United States", (1988) "Columbia History of The American Novel", (1991) "Columbia History of American Poetry", (1993) ومجموعات مثل: "Toward a New American Literary History", (1980) "Reconstructing American Literary History", (1986) والأنطولوچيات الجامعية المهمة مثل: "Heath Anthology of American Literature", (1990) خروج اضطراري لو تناولنا مثل هذه الأعمال بالفحص سنجد أنها لا تتناول الثقافة في ذروة الحرب الباردة بشكل مباشر أو محدد، بل إن الفترة نفسها مفككة إلي موضوعات أقل تحديدا مثل "قضايا ورؤي" و"الذات الأمريكية"(7)؛ ولكن إذا كان مثل هذه العناوين يعطي فرصة لتجارب متعددة الثقافات وتجارب نسوية وعمالية، فإن ذلك يأتي - من وجهة نظر كتابة التاريخ - علي حساب الترابط المنطقي. هذه المراجعات ينقصها إلي اليوم تفسير (نحن في أشد الحاجة إليه) لعقدين مهملين في تاريخ أدب الولاياتالمتحدة في القرن العشرين، عقدين أسيء فهمهما وهما أواخر الأربعينيات والخمسينيات. من أجل إعادة تقييم هذه اللحظة، ولإعطائها ما تستحق من تقدير، لابد من استعادة عشرات الكُتَّاب الموهوبين، غير العاديين، الذين "اختفوا" من التاريخ الثقافي، في الوقت الذي ينبغي أن يعاد فيه تقييم عشرات آخرين لم تتم قراءتهم جيدا، بسبب ستار السرية والكتمان الذي أسدل علي أنشطة اليسار الأدبي لتصبح ملمحا مستمرا، وليس مرحليا، في الثقافة الأمريكية، سوف توحي بأساليب تناول جديدة لتحليل وتقييم العلاقة المتبادلة بين السياسة والفن. التصنيفات حسب المنطقة والنوع والجنس والعرق والتوجه ستكون في حاجة إلي إعادة صياغة تفوق كل الدراسات السابقة لليسار الأدبي. وأخيرا، فإن مثل هذا البحث الجديد في حاجة إلي أن يكون - في جزء منه - سيرة حياة جمعية تروي قصة إنسانية مهمة عن كتاب قدموا تضحيات كثيرة، بما في ذلك فقدان وظائف، وخروج اضطراري للعيش في بلاد أخري، وأحكام بالسجن، والمخاطرة برقابهم في مواجهات عنيفة مع دهماء اليمين، والموت في بعض الحالات، في ساحة القتال في إسپانيا، وكل ذلك من أجل عالم جديد لن يروه. كذلك فإن نتائج مثل هذا البحث ستكون ذات أهمية خاصة، علي ضوء بعض التقييمات الجديدة الدائرة الآن في اليسار الثقافي الأمريكي، علي أثر فتح الأرشيفات وغيرها من مصادر المعلومات في الاتحاد السوفييتي السابق، الخاصة بالراديكالية في الولاياتالمتحدة.