مناضلون يساريون محمود مراد «زوجتي الحبيبة. بعد مزيد السلام وكثر الأشواق، السلام عليك من ميدان الجهاد والتضحية، كان جميلا منك أن تتركي لي في جيب البيجاما هذه الصورة العائلية وزجاجة الريحة.. انني اتمرن بحماس شديدة علي مقاتلة العدو، فأنا اتخيل أثناء التمرين أن العدو الغادر قادم للقضاء عليكم واراكم تحتمون بي وأنا جاهز ومسلح، قبلاتي للأولاد وعرفيهم أن هذه البوسة من بابا الذي ذهب ليحارب الاستعمار». من رسالة ارسلها محمود مراد إلي زوجته خلال وجوده في خط النار اثناء العدوان الثلاثي مؤرخة في 17-11-1956). كثيرون يجيدون الحديث عن نضالات وامجاد حققوها أو زعموها انهم حققوها، وكثيرون يعلو صوتهم «النضالي والثوري» فوق أصوات الآخرين، وآخرون يجيدون التنظير صحيحا كان أم خاطئا.. لكن محمود مراد كان غير ذلك تماما. خاض معارك نضالية فعلية وحمل السلاح عديدا من المرات وسجن مرات بلا حصر، وأقام نقاط ارتكاز فلاحين في وجه بحري بحيث يمكن القول أنه واحد من آباء النضال الثوري للفلاحين المصريين، لكنه أبدا لم يتحدث عن نفسه، وحتي لم يرفع صوته بشعارات أو ادعاءات ولا حتي بوقائع صحيحة، عاش في هدوء، ناضل في هدوء، حمل السلاح في هدوء وسجن بهدوء، ودون أن تسمع منه أي فعل منسوب إلي نفسه حتي ولو كان صحيحا، وفي السجن سمعته وهو يتحدث عن خبرة العمل المسلح في القنال.. تحدث طويلا عن خبرات غاية في الثراء وعن كيفية الاحتماء بالجماهير وعن تعبئة قري بأكملها لتكون رديفا للمقاتلين. وعن عمليات مسلحة غاية في الشجاعة لكنه أبداً لم يذكر اسمه، وكأنه كان يتحدث من كتاب كتبه مؤلف مجهول. .. الفتي نشأ في أسرة فقيرة أو بالدقة شديدة الفقر في مدينة طنطا، لكنه كان يغلي بالعداء للاستعمار وللقصر الملكي. لقمة الخبز شحيحة لكنه، بوعي فطري ادرك أن الجوع مصدره الاستعمار والملك الطاغية وفي إحدي المظاهرات في عام 1948 ينفلت من المألوف ويهتف «يسقط الملك» ويقبض عليه بتهمة «العيب في الذات الملكية» وبقي في السجن لفترة وتظل القضية معلقة فوق رأسه حتي قيام ثورة يوليو وقبلها كان الغاء معاهدة 1936 والكفاح المسلح في القنال، وتلقي دعوة من أحد كوادر حدتو (سيف صادق) كي يشارك في كتائب الانصار، وبعد حريق القاهرة تبدأ حملات القبض علي الفدائيين لكنه يتسرب بهدوء من بين ايديهم إلي حصنه الحصين طنطا ، وهناك يواصل عملا سريا نشيطا بين الفلاحين، ويتوالي صدور نشرة «صوت الفلاحين» صوت فلاحي بحري (حدتو) وكان مراد خلف اصدارها طباعة وتوزيعا وتحريرا، ورويدا رويدا بدأ تحركات فلاحية وانشطة تعاونية وأول دار نشر علنية للفلاحين «دار الفجر» كان الزمان صعبا بل شديد الصعوبة فقبضة ضباط يوليو كانت تعصف بمعارضيها وخاصة منظمة حدتو، لكن مراد ورفاق بحري سيف صادق عريان نصيف وسعيد النحاس كانوا كتيبة شديدة النشاط وواسعة الانتشار. ويمكن القول أن هذه الكتيبة ومنها محمود مراد هي التي وضعت أسس البساطة الثورية، ولقنت الجميع كيفية اصدار مطبوعات ومحاضرات ونشرات بلغة فلاحية بسيطة جدا لكنها متقنة جدا وماركسية جدا. وكالعادة وعندما يأتي عدوان 1956 عرف محمود مراد طريقه إلي عشقه القديم.. الكفاح المسلح ضد الاستعمار، وهناك في الإسماعيلية انضم إلي رفاقه في الصفوف الأمامية استعدادا لمجابهة الغزاة. لكن مراد كان لا يكف عن التجوال في القري المحيطة، يزور البيوت بيتا بيتا شارحا وببساطة رائعة لماذا أتي الغزاة؟ ولماذا يتعين مواجهتهم؟ ويمزج ذلك كله برحيق جميل من الفكر الاشتراكي، وأصبح عم محمود واحدا من اساطير النضال الفلاحي المسلح في القري الأمامية. وتنتهي المعركة باندحار الغزاة وإذ تأتيه طفلة جديدة يسميها «انتصار» ويستقر محمود مرة أخري في حصنه بقري الغربية، وتتوالي اصدارات «دار الفجر» متحدثة إلي الفلاحين بحديث ثوري بسيط يتسلل إلي عقول الجميع. لكن عبد الناصر يعود لينقلب علي حلفائه في المعركة ضد الغزاة، وفي أول يناير 1959 يبدأ حملة ضارية ضد قيادات حدتو.. لكن محمود مراد وغيره من الكوادر الوسطي واصلوا نضالا سريا مريرا في محاولة لمواجهة هذه الحملة، ويقبض عليه في مارس ومن سجن القلعة يكتب إلي فتحية (زوجته) قائلا في رسالة قام بتهريبها من السجن «زوجتي الحبيبة بعد مزيد السلام اكتب لكم بعد هذا الفراق اللعين الذي لم يكن أحد ينتظره أو يتوقعه خاصة في هذه الفترة التاريخية من حياة وطننا.. وفي نظري أن هذا الاعتقال لا مبرر له» لكن الاحزان تتراكم فيأتيه نبأ اغتيال رفيق النضال سعيد النحاس علي يدي زبانية الأمن، ومن القلعة إلي الواحات، ليشهد واحدة من اسود مراحل التعذيب الوحشي. ومن الواحات إلي سجن مصر حيث قدم إلي المحاكمة ضمن 47 متهما في قضية «الحزب الشيوعي المصري- حدتو». وإلي الإسكندرية ليواجه المجلس العسكري العالي برئاسة الفريق هلال عبد الله هلال قائد سلاح المدفعية» وتنتهي المحاكمة التي دافع فيها عن نفسه ببساطة أغاظت الفريق، ويرحل بعد المحاكمة إلي سجن ابو زعبل حيث حفل الاستقبال الدموي الذي استشهد فيه شهدي عطية.. ويعود إلي الواحات ليبقي هناك حتي ابريل1964. وعندما تلوح بوادر تأسيس منبر اليسار يكون من أوائل القادمين وبعد انتفاضة 16 و17 يناير ثم الموقف التجمعي الصلب الرافض لزيارة السادات للقدس ثم كامب ديفيد تبدأ صدامات متكررة أو بالدقة مستمرة مع السادات .. ويكون كمامراد عهدناه في المقدمة فيقبض عليه، ثم يقبض عليه ثم تتوالي مرات القبض والسجن والافراج ثم القبض والسجن والإفراج ست مرات في زمن السادات وحده وقبلها كثير منذ العهد الملكي وعهد عبد الناصر ثم السادات. ويكون مراد كعادته هادئا. يخفي تاريخ نضاله الطويل، ينطق بما فعله الآخرون عن نفسه فهو دوما صامت ومبتسم فهي قناعة عميقة توحي إليه أنه فعل ما يجب، ومهما فعل فهو لم يقدم ما يعتقد انه كافيا. إنه نموذج المناضل.. البسيط.. العامل.. الفقير الذي لا يحب الزهو ولا الادعاء ولا الجمل الثورية. إنه ببساطة نموذج للثوري الشعبي البسيط.