الرهان علي الشعب انفرد حزب التجمع برفض العمل بقانون الغدر الصادر المرسوم بقانون رقم 344 لسنة 1952 والمعدل بالقانون رقم 173 لسنة 1953 منذ طرح مجلس الوزراء العودة للعمل به في شهر أغسطس الماضي، وجاء هذا الرفض - رغم التعديلات الإيجابية التي طرحها مجلس الوزراء علي القانون والتي تناولت العقوبات الجنائية والتأديبية واختصاص محكمة الجنايات دون غيرها بالنظر في دعاوي الغدر والفصل فيها، وقصر رفع دعاوي الغدر علي النيابة العامة - لمجموعة من الأسباب لم تلفت إليها الأحزاب والقوي السياسية والائتلافات الشبابية التي طالبت بالعزل السياسي لكل من يثبت أنه أفسد الحياة السياسية ورموز النظام السابق من قيادات وكوادر «الحزب الوطني الديمقراطي» وأعضاء هيئته البرلمانية في مجلس الشعب الذي انتخب عام 2010 في انتخابات مزورة بالكامل وأعضاء المجالس المحلية. أول هذه الأسباب أن قانون الغدر قانون استثنائي من حيث طبيعة الجرائم والعقوبات التي يفرضها علي هذه الجرائم، ومن حيث أثره الرجعي، مثله في ذلك مثل قانون حماية الجبهة الداخلية والسلام الاجتماعي (33 لسنة 1978) والذي الغي عام 1994، والقانون رقم 95 لسنة 1980 لحماية القيم من العيب والذي ألغي عام 2008، وقانون إنشاء محاكم أمن الدولة رقم 105 لسنة 1980، والذي ألغي عام 2003، والعودة إلي تطبيق قانون استثنائي بعد ثورة 25 يناير أمر يتعارض مع العدالة وأهداف الثورة حتي وإن كان أحد المطالب التي رفعت في ميدان التحرير خلال مليونية أخيرة! كذلك فقد احتوي القانون عند صدوره ومع التعديلات التي اقترح مجلس الوزراء إدخالها عليه عبارات مطاطة يصعب تحديد محتواها، وعلي جرائم غير محددة المعالم، مثل «إفساد الحكم» و«إفساد الحياة السياسية» و«التدخل الضار بالمصلحة العامة»، ويحضرني في هذا المجال حكم صادر من المحكمة الدستورية العليا جاء فيه «.. لكل جريمة عقوبة محددة منصوص عليها في القانون أو مقررة وفق الحدود المبينة فيه، ومن القواعد المبدئية التي يتطلبها الدستور في القوانين الجزائية أن تكون درجة اليقين التي تقوم بتنظيم أحكامها في أعلي مستوياتها، وأساس ذلك ما تفرضه القوانين من قيود خطرة علي الحرية الشخصية، ومن المتعين ضمانا لهذه الحرية أن تكون الأفعال التي تؤثمها هذه القوانين محددة بصورة قاطعة غير مجهلة، إذ أن التجهيل بها لا يجعل المخاطبين بها علي بينة من الأفعال المنهي عنها، ومؤدي غموض النص العقابي الحيلولة بين محكمة الموضوع وبين إعمال قواعد محددة لأركان الجريمة وعقوبتها دون خفاء، مما يوقع المحكمة في محاذير تنتهي بها إلي ابتداع جرائم لم يقصدها المشرع». وتتأكد استثنائية هذا القانون بالنص علي تطبيقه بأثر رجعي، فالمادة الأولي من القانون تعاقب علي جرائم الغدر التي ارتكبت منذ سبتمبر 1939!! وتؤكد دروس التاريخ أن اللجوء بعد الثورات إلي إصدار قوانين استثنائية للعزل السياسي لرموز وقيادات وكوادر النظام السابق، أضر بهذه الثورات ولم يحقق الهدف المعلن لهذه القوانين. فقانون الغدر ومحاكم الثورة في مصر بعد ثورة 23 يوليو 1952 وغيرهما من المحاكم الاستثنائية أصاب في المراحل المختلفة «حزب الوفد» - حزب الأغلبية الشعبية قبل الثورة - والزعيمين مصطفي النحاس وفؤاد سراج الدين ومعهم عدد من قادة الوفد، ثم «الإخوان المسلمين» و«الشيوعيين»، وأخيرا قادة الحكم في نهاية عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر ممن أطلق عليهم مراكز القوي مثل علي صبري ومحمد فائق وخضعوا لمحاكمات استثنائية حكمت عليهم بالأشغال الشاقة المؤبدة أو لمدة 10 سنوات، وتكررت هذه الظاهرة في تشيكوسلوفاكيا عقب سقوط النظام الشيوعي تحت شعار التطهير، وفي العراق في ظل قانون «اجتثاث البعث».. إلخ. ورفض التجمع العزل السياسي لقانون استثنائي لا يعني رفضه لمساءلة قيادات وكوادر الحزب الوطني الذين دمروا الدولة والحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في مصر، وزوروا انتخابات 2010 بصورة غير مسبوقة أدت إلي أن تكون هذه الانتخابات هي «القشة التي كسرت ظهر البعير» وأحد الأسباب المباشرة لثورة 25 يناير بعد أن تيقن الناس أن باب التغيير عبر صندوق الانتخاب قد أغلق «بالضبة والمفتاح». ولكن هذه المساءلة لابد أن تتم طبقا للقوانين القائمة وفيها ما يكفي ويزيد، والمحاكمات التي تجري حاليا لمبارك وكبار معاونيه والعادلي وسرور، وبعض الأحكام التي صدرت تؤكد هذه الحقيقة. والأهم من ذلك أن العزل السياسي لهؤلاء المفسدين يتحقق فعلا من خلال الثقة في الشعب وفي الوعي الذي اكتسبه بعد ثورة 25 يناير وقدرته علي التغيير وعزل أعدائه، وإسقاط قيادات الحزب الوطني ونوابه الفاسدين الذي سيخوضون انتخابات مجلسي الشعب والشوري والمحليات فيما بعد، فالشعب يعرفهم جيدا ويعرف جرائمهم وتخفيهم في أحزاب جديدة خالصة لهم أو نزولهم علي قوائم أحزاب قديمة أو جديدة كحزب الوفد والمصريين الأحرار والحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي - إذا ما حدث - لن ينطلي علي الناخبين، فصفحاتهم السوداء معروفة للجميع. باختصار إن رهان حزب التجمع هو علي الشعب المصري وليس علي أي شيء آخر.