"احتجت لأكثر من 30 عاما من العمل الصحفي لكي أسأل نفسي هذا السؤال. هذا الأسبوع وجدت أني لا بد ان اطرحه: هل اليسار علي حق في النهاية؟ كما تعرفون، احد اقوي حجج اليسار تقول ان ما يسميه اليمين "السوق الحرة" هو في الواقع تركيبة مصنوعة. فضيحة التنصت علي الهواتف، وأزمة منطقة اليورو، وبؤس الاقتصاد في الولاياتالمتحدة،والقلة الجشعة جعلوا الناس تفوق من اوهام ديمقراطياتنا المشوهة." هذا جزء يسير من اعترافات احد عتاة الفكر الراسمالي الليبرالي، الصحفي البريطاني الشهير تشارلز مور، كاتب سيرة حياة مارجريت تاتشر، ورئيس تحرير "ديلي تلغراف " اليمينية لعشرين عاما، والرجل الذي لا يرحم في هجماته علي النقابات واليسار ومنتقدي النهج الاقتصادي الاجتماعي للرأسمالية المتوحشة. في مقاله في "الديلي تلغراف 22 يوليو" والذي لا زالت اصداؤه تتردد في الاعلام والدوائر السياسية في اوروبا وامريكا يضيف مور: "الأغنياء يديرون نظاما عالميا يسمح لهم بتراكم رأس المال مقابل دفع أدني سعر ممكن للعمل. والحرية الناتجة عن ذلك ليست متاحة الا لهم. اما غالبية الناس فعليها ببساطة ان تعمل بجهد أكبرفي ظل ظروف اقل أمانا باستمرار لكي تزداد الاقلية الثرية ثراء.'والسياسات الديمقراطية ' التي تعلن انها ترمي لاتاحة الثروة للاغلبية، هي في الواقع خاضعة لسيطرة هؤلاء المصرفيين، وبارونات الإعلام وغيرهم من كبار القوم الذين يديرون ويملكون كل شيء". صيحة انذار ما قاله تشارلز مور عندما اجلس نفسه علي كرسي الاعتراف، كان صيحة انذار موجه لقيادات العالم الرأسمالي ليستيقظوا علي الواقع المتغير الذي يحفر في اسس نظامهم. وعندما يكتب مور: "كان اليسار علي حق في أن قوة روبرت مردوخ قد أصبحت قوة معادية للمجتمع .. واليمين الذي، في هذا السياق، يجب أن يشمل حزب العمال الجديد، حزب توني بلير وغوردون براون كان بطيئا للغاية ليري هذا". وهو يعبر عن فزعه من تبعات فضيحة "نيوز اوف ذي وورلد" التي كشفت عن التواطؤ المافيوي بين السلطة السياسية والاعلامية والأمن. ويعزو مور موقف حزب العمال المتباطئ (ولم يقل المتواطئ) لما يسميه "الخلط بين الشعبوية والديمقراطية". طبعا لم يقدم مور اعترافا كاملا، والا كان عليه، في بلد يبدو فيه "الفصل بين السلطات" ذا مكانة مقدسة، ان يقول لنا، أن سلطة الرأسمال تسعي علي الدوام للهيمنة علي الفضاء الاعلامي، وأن الاحتكارات الاعلامية تمثل اداة سيطرة لا غناء عنها للحفاظ علي النظام مهما كانت القوانين. وليس جديدا بالمرة ولا مفاجئا ان تستخدم حكومات الغرب الشعبوية، خاصة في صراعاتها الانتخابية او لكسب دعم شعبي لسياساتها الخارجية او الداخلية. احتكارات الغرب لم يتعرض مور لمشاكل العالم الثالث. لم يسأل عما فعلته الرأسمالية المتوحشة بأسيا وافريقيا وامريكا الجنوبية. عندما قرأت مقال تشالز مور فكرت في مصر التي تقف امام خيارات المستقبل. ولم يتحدث عن نظام اللاعدالة العالمي الذي تربح منه احتكارات الغرب الكبري، التي تفقر الشعوب وتحرمها من فرص التقدم. هو يعطي توصيفا لما يسبب كارثة اجتماعية في بريطانيا ويصح تعميمه علي كبري البلدان الرأسمالية التي انتهجت المذهب النيو ليبرالي الاقتصادي. في مطلع التسعينيات اعلن فوكوياما الامريكي اننا وصلنا الي نهاية التاريخ. وكأن النظام الرأسمالي منزل من السماء، او هو من قوانين الطبيعة. وطُبقَت نظام الرأسمالية الليبرالية علي مليارات البشر علي اختلاف اصولهم الحضارية وعقائدهم الدينية. الهندوس والبوذيين والمسيحيين واليهود واللادينيين وغيرهم بحكوماتهم الديمقراطية أوالديكتاتورية اندمجوا أو ادمجوا في عالم الرأسمالية. لم يلتفت مور لأن كوارث ما يسمي نظام "اقتصاديات السوق الحرة" اكبر في بلدان لا تتاح فيها المشاركة الشعبية ولا الرقابة شعبية. وقرارات وصفقات ومليارات مبارك والقذافي السرية اوضح دليل علي ذلك. وفي المانيا اثار فرانك شيرماخر المفكر والكاتب الليبرالي المعروف نقاشا واسعا بمقال استعرض وساند فيه انتقادات تشارلز مور عن ممارسات الرأسماية المعاصرة. شيرماخر هو ناشر صحيفة "فرانكفورتر الجيماينة تسايتونج" الالمانية ذات النفوذ الواسع. جاء عنوان مقال شيرماخر اكثر وضوحا وتصميما من تشارلز مور: "أنا بدأت أعتقد أن اليسار علي حق". وهو كما يبدو يرد علي الخطاب المعتاد للمحافظين وحلفائهم في حزب الاحرار الذين يرددون دائما ان سياساتهم "لا بديل لها". يكتب شيرماخر "تتزايد في المعسكر البرجوازي باستمرار الشكوك ان كان المرء علي حق مدي الحياة... اذ يتبين تحديدا .. أن افتراضات اكبر الخصوم تبدو صحيحة". وهو يستعرض عدة جوانب للأ زمة. فهو يناقش سياسات المحافظين، والعلاقة بين الممارسة والقيم المعلنة في مبادئهم التأسيسية. يكتب شيرماخر ان عقدا من الزمان من اقتصاديات السوق المالي المنفلت قد اعاد الاعتبار للنقد اليساري للمجتمع. وانه بقدر ما بدا ان هذا النقد قد افلس، الا انه قد عاد من جديد بل انه اصبح مطلوبا ايضا. الطبقة الوسطي ويسأل الحزب الديمقراطي المسيحي عن جديته في محاسبة البنوك عن ادائها وهي البنوك التي شاركت في احداث الكارثة الاقتصادية التي كلفت دافعي الضرائب مئات المليارات: " (الحزب المسيحي) ليس فقط لم يطالب بتوضيح المسئوليات فيما يخص البنوك المشرفة علي الافلاس، ولم يشتك ولا مرة واحدة من افساد وتدمير مثله العليا. وهكذا نشأ عالم مزدوج المعايير يتحتم ان تنجم فيه قضايا أخلاقية عن المشاكل الاقتصادية. هنا تكمن الحالة الإنفجارية للوضع الراهن... والسؤال هو إذا ما كان (الحزب) حزبا برجوازيا يحدد جدول الأعمال أو ما إذا كان يعتبر الطبقة الوسطي خادمته فيسيطر عليها طفيليا ويمتصها ويوهنها". ثم يدعو الطبقة الوسطي للاحتجاج لان "التخلي النهائي عن الاغلبيات المتطلعة (لحياة افضل)... يفقدنا النطق بسبب انعدام الحساسية المفزع. علي الطبقة الوسطي التي تشهد سوء استخدام "قلة جشعه" (مور) لقيمها وتصوراتها عن الحياة ان تجد في نفسها القدرة علي ممارسة النقد المجتمعي المدني". من الواضح ان الكاتب يدافع هنا عن الطبقة الوسطي، ولا يذكر بكلمة واحدة مثلا ملايين العاملين بالاجر وهم الضحية الاولي لسياسات الليبرالية الجديدة وقد جمدت الاجورالحقيقية في المانيا عند مستواها في بداية التسعينيات. ولكن الجديد في هذا النقد الحاد من قلب مفكري النخبة الحاكمة يكمن في ان كاتبه يكشف ولو جزئيا زيف دعاية ان "اقتصاد السوق الحر" يوفر الرفاهية والترقي الاجتماعي ويضمن الحرية للجميع. بل يدعو المقال الطبقة الوسطي لتنقذ نظامها من "القلة الجشعة". النظام الذي وعد بالرفاهية والثروة بالرغم من قواه الانتاجية الجبارة وتقدمه الهائل وثروته الخرافية يعاني من مرض عضال، بدأ يفقد بريقه، ومصداقيته، وبدأت هيمنته الفكرية تنحسر، وجماهير المؤمنين به تراوح بين الحيرة واليأس. إفلاس سياسي في اكبر واغني دول العالم تؤثر الازمة بعمق علي مستويات المعيشة وفرص العمل وميزانيات التعليم والرعاية الصحية. ملايين الاطفال في المانيا وبريطانيا والولاياتالمتحدة يعيشون في كنف أسر يذهب اربابها كل شهر ليحصلوا علي المعونة الاجتماعية، رغم انهم يشتغلون. الاجور لم تعد تكفي لدفع ايجارات المساكن. ويري الناس ان الحكومات التي انتخبوها اضعف من اتحادات الرأسماليين. الوعود الانتخابية وبرامج الاحزاب الكبري لم يعد لها قيمة. والنتيجة هي إعراض من 40 الي 50 بالمائة عن المشاركة في الانتخابات، وهجرة الاحزاب، والنقابات. ويأتي العقاب في صورة افلاس سياسي لاحزاب حاكمة. مثلما جري بالنسبة لحزب الاحرار الديمقراطي الالماني مؤخرا، وهو شريك المستشارة ميركيل في الحكم، عندما اخرجه الناخبون من برلمانات الولايات واحدا بعد الآخر، وفي يوم الاحد الماضي لم يحصل سوي 2 بالمائة ليخرج من برلمان ولاية برلين العاصمة.