من أين تأتي هذه الرائحة الغريبة التي ملأت المكان ؟ خرجت مسرعاً من البيت ألتمس هواء نقياً ، كنت في الحقيقة ألتمس الفرار من هذه الرائحة الخانقة التي ملأت البيت ، داهمتني الرائحة في الشارع ، قادتني قدماي إلي الحقل، وظلت الرائحة تلاحقني ، لكني لاحظت أن الناس يتحركون علي الجسر في حركة عادية ، لا تنبئ عن وجود أي شيء غير عادي. الأولاد يلعبون بالكرة الشراب علي جسر الطريق ، ويسبحون في النهر ، والصغار يخرجون من الماء ويغطون أجسادهم بالتراب ، يتقلبون علي الجسر فتكتسي أجسادهم بترابه ، يقفزون إلي النهر ويغطسون ، يسبحون ويغسلون أجسادهم من التراب الشراقي ، يتسابقون في الغطس وفي السباحة ، ويتعاركون برش الماء . والرجال منشغلون بري الأرض وزراعة البرسيم ، يقفون وسط الماء الذي يملأ الحقول الخالية من المزروعات بعد الحصاد ، يقفون وسط جيوش بيضاء من طيور أبو قردان ، والبنات الصغيرات يعاكسن الطيور ويغنين : أبو قردان .. زرع فدان .. نصه ملوخية .. ونصه بدنجان ، ويقذفنه بالماء وحبات الفول والحصوات الصغيرة ، تفرد الطيور البيضاء أرجلها الطويلة وتتحاشي عبث البنات ، تجري بين الماء وتقفز وتعود في مجموعات ، تطير دون ارتفاع وتهبط علي الأرض . لم ألاحظ أي شيء غير عادي ، إلا أن الكلاب كانت تجري بسرعة وكأن أحداً يطاردها ، أو هي تطارد أحداً ، وكانت تزوم وتئن ، ثم بدأت تنبح ، ملأت بنباحها المكان ، وتجمعت في مجموعات كبيرة ، وكانت تجري وتنبح ، تجري في اتجاه واحد وتنبح ، وحينما لاحظ بعض الأولاد تجمعاتها وجريها ونباحها ، قال الولد الكبير : أنها تسمع أصوات الريح وتري الشيطان، وقال الشيخ محمود الذي كان يمر راكباً حمارته البيضاء بثقة : بل هي تري عزرائيل ، ويقولون إنها تري ما لا نراه قبل أن نراه ، وأضاف وهو يرفع يديه إلي السماء وصوته مرتعشاً : اللهم احفظنا وألطف بنا يا حليم يا كريم يا رب . قفزت حمارة الشيخ محمود المشهورة بهدوئها وسيرها البطيء ، قفزت وأخرجت من فمها صوتاً كالصراخ ، لم يكن كنهيق الحمير ، قفزت وصرخت وأسرعت وكأن عقرباً لدغها ، قفزت قفزة مفاجئة فسقط الشيخ محمود علي الأرض ، تركته مكوماً وأسرعت في فزع ، تجمع الأولاد حول الشيخ محمود الذي كان يئن من الألم ، حملوه إلي المصلية المفروشة بالحصير والقش بجوار النهر ، وبينما كانوا يطمئنون عليه بالسؤال عن المكان الذي يوجعه ، كان يطلب منهم أن يسرعوا خلف حمارته ويعودوا بها قبل أن تتوه أو يسرقها اللصوص ، وكان الولد الكبير يطمئنه بأن الحمير لا تتوه ، وكان يؤكد له أنها ستعود أو تذهب إلي البيت ، قال الشيخ محمود: ارحمنا يا رحيم .. ألطف بنا يا لطيف. خلعت جاموسة الحاج علي ناف الساقية وقفزت تجري ، كانت الغمامة فوق عينيها فسقطت في البئر ، ترك الفلاحون حقولهم قبل إتمام عمليات الري وزراعة البرسيم ، أحضروا خشباً وحبالاً كثيرة ، ولاحظت أنهم يغلقون الحظائر علي مواشيهم بالحبال والجنازير ، وراحوا يتشابكون بالأيادي والحبال لإنقاذ الجاموسة من البئر قبل أن تنفق . تجمع خلق كثير حول الشيخ محمود المكوم في المصلية وجاموسة الحاج علي المكومة بجوار البئر ، قال الشيخ محمود إن الكلاب هي التي أفزعت حمارته ، قال الولد الكبير : ومن أفزع جاموسة الحاج علي ؟ قلت : ومن أفزع الكلاب؟ كانت الكلاب لا تزال تمر مسرعة في جماعات كبيرة وصغيرة ، بل في موجات وهي تزوم وتئن، وبدأت المواشي داخل الحظائر تحدث أصواتاً وتحدث ضجيجاً عالياً ، والناس المتجمعون يضربون كفاً بكف ، قال الشيخ محمود: إن المواشي كالكلاب تري ما لا نراه ، بدأ خليط من الدهشة والفزع يظهر في عيون الجمع ، ويقولون : ارحمنا يا رب ، وكانت الرائحة الغريبة التي هربت منها لا تزال تلاحقني ، تملكتني الدهشة ، واستغربت أن أشم هذه الرائحة وحدي ، وكدت أجن فصرخت : ألا تشمون هذه الرائحة الغريبة ؟ خيم علي الجمع صمت غريب ، اعتدل الشيخ محمود وجلس متسانداً علي حجر ، ووقف الجالسون بجوار الساقية وحول البئر وتحت الشجر ، وأخذوا ينظرون إلي ويتبادلون النظر إلي بعضهم البعض في دهشة ، وخيل إلي أن المواشي قد توقفت عن الضجيج والحركة داخل حظائرها ، وان الكلاب قد كفت عن الجري والنباح وتوقفت في أماكنها ، قطع الولد الكبير الصمت الذي طال حتي أصابني بالرعب والفزع وسأل : كيف لم نفطن إلي وجود هذه الرائحة الغريبة التي تملأ المكان ؟ قال صبي : إنها رائحة عفنة ، تساند الشيخ محمود واعتدل قائلاً بثقة أفزعت الجمع الكبير وأصابته بالاضطراب : بل هي رائحة جثة، وأضاف : بل جثة تعفنت وفاحت رائحتها ، وحملتها الرياح وملأت بها المكان .