ليست الثورة مجرد مطالبة بتغيير الحزب الحاكم أو بإلغاء القوانين المقيدة للحريات، فالثورة بحق هي "إسقاط النظام القديم" بأكمله، بالطبع من أجل بناء نظام ثوري جديد علي أنقاضه. وتهدف الثورة الحالية كثورة سياسية إلي القضاء علي النظام السياسي الاستبدادي وأشكال الظلم الصارخ وإقامة نظام ديمقراطي علي أنقاضه، حيث تشتمل الديمقراطية بالطبع ليس فقط علي أحزاب رسمية وتداول للسلطة ولكن أيضا علي حريات التعبير الشعبية بما فيها حقوق الاجتماع والتظاهر والإضراب. كما تشمل علي البرامج المطلبية في الأجور المنصفة والخدمات الاجتماعية المختلفة من تعليم وصحة ومعاشات وإسكان ومرافق وخدمات. كما تفتح الثورة الأبواب للتطوير وتحقيق المطالب الجذرية الجماهيرية في العدالة الاجتماعية الحقة وبناء أسس الاستقلال الوطني الناجز وتحقيقه من الثورة المعدن الأصيل لهذا الشعب في روح التضحية و الإصرار علي تحقيق هدفه رغم ما يقرب من ألف شهيد وحوالي ستة آلاف وخمسمائة جريح منهم أكثر من ألف ومائتين ممن أصيبوا في أعينهم وأغلبهم فقدوا بصرهم! الإطاحة الناجحة والسمة الأساسية التي لاحظناها سابقا هي أن رفض الجيش القيام بذبح الثورة وتخليه عن الرئيس مبارك في سبيل ذلك هو ما سهل إنجاز هدف الإطاحة الناجحة برأس النظام. ولكن هذا من ناحية أخري هو ما أعطي المجلس العسكري سلطات واسعة بينما هو في الواقع جزء من النظام القديم. لقد عمل المجلس العسكري علي تكتيك استعادة النظام بأسرع طريقة ممكنة (تكتيك إنجاز التعديلات الدستورية في عشرة أيام والاستفتاء عليها وإجراء الانتخابات التشريعية خلال شهرين -تم مدهم بعدها إلي ستة أشهر- والانتخابات الرئاسية خلال أقل من ستة أشهر حتي يتمكن الجيش من العودة إلي الثكنات!) وبالطبع فهذا هو تكتيك أقل التغييرات الممكنة، وصاحب هذا التكتيك نوع من الاتفاق غير المعلن مع الإخوان المسلمين كقوة محافظة أيضا ومستفيدة من تحجيم المد الثوري لاستعادة النظام بعد بعض التحسينات الضرورية! ولكن هناك مشكلتان أساسيتان لإنجاز مثل هذا التكتيك: الأولي أن مقاومة النظام القديم الشرسة والرغبة في استعادة الأوضاع القديمة بحذافيرها ورموزها وامتيازاتها، وتأمين الثروات المنهوبة من خطر المحاكمات واستعادة ما نهب لا يمكن أن تستسلم بسهولة لتحجيمها وترك الأمور تسير في اتجاه إعادة الاستقرار علي حساب امتيازاتها بل وعلي حساب أمانها الشخصي. والثانية أن الشعب الثائر ومزاجه الثوري لم يخرج ويقدم كل تلك التضحيات من أجل مجرد بعض التحسينات في النظام القديم، فهدفه هو هدم النظام القديم. والحقيقة هي أن الشعب الثائر والنظام القديم هما طرفا التناقض الرئيسيان، هما اللاعبان الأساسيان علي الساحة، وما يحدد المستقبل هو أساسا ميزان القوي بين هذين الطرفين. وبعد تحقيق هدف الإطاحة بمبارك (11 فبراير) وحل مجلسي الشعب والشوري (13 فبراير) تلكأ المجلس العسكري في تحقيق أي مطالب أخري وحاول استعادة النظام والهدوء وناشد الشعب التخلي عن "المطالب الفئوية" و"التوقف عن الاحتجاجات" و"العودة للعمل" ولكن إصرار الشعب علي مواصلة طريق الثورة هو ما قاد إلي مليونية الجمعة الثالثة بعد الإطاحة بمبارك والتهديد بالاعتصام في ميدان التحرير حتي ظفر بتحقيق مطلب الإطاحة بحكومة شفيق التي حلفت اليمين أمام الرئيس المخلوع حسني مبارك! الثورة المضادة استمرت الثورة المضادة الضخمة استمرت في مؤامراتها من أجل عودة الثورة للوراء واستعادة السلطة: وتمثل تكتيكها في مواصلة وزارة الداخلية تحت قيادة محمود وجدي لسياسة التفريغ الأمني ورفض نزول الشرطة إلي الشارع. كما تمثل تكتيك الثورة المضادة أيضا في إثارة القوي السلفية والرجعية ضد الثورة بزعم الدفاع عن الإسلام المتمثل في الحفاظ علي المادة الثانية من الدستور. وهكذا استمرت تكتيكات البلطجة، وتعبئة قوي البلطجية في جماعات منظمة. وأتي الإدراك المتأخر للمجلس العسكري في صورة أحداث عشية وصبيحة الجمعة الرابعة للثورة والمتمثلة في إجبار الشرطة علي النزول للشارع لاستعادة الأمن وحل جهاز مباحث أمن الدولة وسيطرة القوات المسلحة علي مقاره. أما الإمساك بناصية وقيادات الثورة المضادة من أجل تأمين الثورة فقد اقتضي قدرا هائلا من الجهد من الشعب الثائر وكل قواه الواعية: لقد أتت مظاهرات التحرير الضخمة في جمعة التطهير، الجمعة السابعة بعد الإطاحة بمبارك في الأول من إبريل كإنذار قوي، ونجحت نجاحا باهرا رغم عدم مشاركة الإخوان المسلمين فيها في صفقة واضحة مع المجلس العسكري لوقف تقدم الثورة والإسراع باستعادة "النظام". وأسس نجاح تلك الجمعة للتحضير للجمعة التالية، جمعة التطهير الثانية في الثامن من إبريل، الجمعة الثامنة للثورة مع التهديد بإنهائها باعتصام في ميدان التحرير إذا لم يتم القبض علي رموز وقيادات الفساد الكبيرة وعلي رأسها الرئيس ونجله ورجاله الكبار عزمي وسرور والشريف وغيرهم. وعلي غرار كل مليونية كبيرة تأتي التنازلات عشيتها، وصبيحتها وفي أعقابها: فقد تحقق أخيرا بعد ثمانية أسابيع من الثورة وبعد كل هذا النضال الشعبي الباسل الذي هدف إلي اعتقال القادة الكبار المؤثرين والتحقيق معهم: مبارك الأب والإبنان وعزمي وصفوت وسرور ونظيف والبقية تأتي! إن منطق تطور الأحداث يبين أنه رغم عدم وجود قيادة موحدة للثورة أو حزب يلعب دورا بارزا في القيادة فإن نضج وارتفاع الوعي الجماهيري (شاملا مختلف القيادات الموجودة) يلعب دورا مهما في تحديد الحلقة الحاكمة في كل لحظة من أجل تطوير النضال لاستكمال مهام الثورة. وإن نظرة واحدة علي المتحقق حتي الآن تكفي لرؤية هذا التطور، كما وتساعد علي تحديد مهام الفترة القادمة. إن مهمة الثورة التي تتلخص في الهدم والبناء، هدم النظام القديم وإقامة نظام ديمقراطي علي أنقاضه لابد وأن تتجاوز نفسها في كل لحظة فلا يمكن الوقوف، وعدم التقدم معناه التراجع! أما عن شق البناء والثورة حتي الآن حققت القسم الأساسي من مهمة هدم هياكل رئيسية للنظام القديم ممثلة في الموقف من الحزب الوطني ومجلسي الشعب والشوري ومباحث أمن الدولة وغيرها. كما حققت إنجازا ضخما باعتقال ومحاكمة القيادات الأساسية للنظام القديم فيما عرف بمقر حكومة نظيف في سجن طرة. ويأتي اعتقال حسين مجاور رئيس اتحاد العمال كمكسب ومقدمة ضرورية لحل اتحاد مبارك الذي أتي بالتزوير والذي لعب دورا نشطا في الثورة المضادة. ومن هنا لابد من الحديث عن شق البناء! حقا إن شق هدم النظام القديم ينتظر الكثير: فحركة المحافظين الأخيرة لم تخرج عن السياسة القديمة في تحديد "كوتة" للجهات الأربع الكلاسيكية في كل حركة محافظين، وهم الجيش والشرطة والقضاء وعمداء الجامعات السابقين. ومازالت المجالس المحلية الفاسدة في معظمها والتي تعتبر الأبناء الشرعيين للحزب الوطني المنحل، ما تزال في مكانها. وكل هذا بعيد بالطبع عن تحقيق مطلب ديمقراطي مهم بتغيير قانون المحليات وانتخاب المحافظين ورؤساء مجالس المدن وعمد القري وكل المجالس المحلية! ولكن هذا يوضح تشابك مهام الهدم مع البناء، فالأمر ليس مجرد إقالة محافظ قادم من منصب من مناصب الشرطة وساهم في قمع الثورة، ولكن المهم في وضع أساس ديمقراطي لانتخاب كل محافظ وكل قيادة محلية مهمة. الحق في حياة كريمة إلا أنه من المهم جدا الآن الحديث عن شق البناء في الثورة، إقامة نظام جديد يحقق أهداف الجماهير في الثورة. وبناء النظام الجديد يشمل بناء النظام السياسي علي أسس ديمقراطية تبدأ بدستور ديمقراطي تضعه جمعية تأسيسية منتخبة مباشرة، وليس علي مرحلتين من خلال انتخاب مجلس شعب ومجلس شوري لا لزوم له ثم اختيار لجنة من داخلهما لوضع دستور. إن الدستور هو النظام الأساسي للمجتمع، وهو الأب الشرعي لكل القوانين، وأول ما يحدده الدستور هو حقوق الشعب التي يضمنها النظام في الديمقراطية وفي الحياة الكريمة شاملة حق الشعب في أجور عادلة وخدمات أساسية. كما يشمل بناء النظام الجديد أيضا بناء نظام اقتصادي يقوم علي أولوية حقوق المواطنين. ومن أهم أولويات النظام الاقتصادي الجديد بناء هيكل جديد للأجور بحد أدني يكفي للمعيشة الكريمة، وحد أقصي لا يزيد علي عشرين ضعفا للحد الأدني -ليس فقط لتوفير تمويل لزيادة الأجور ولكن أيضا لمقاومة الفساد والإفساد المتعلق بالمرتبات والامتيازات العينية الخرافية للإدارة العليا! ولا ننسي بالطبع هدف ربط الأجور بالأسعار للاحتفاظ بالقيمة الشرائية الثابتة للأجور وهو ما يضع علي الحكومة عبئا إضافيا بالتحكم في الأسعار من خلال مقاومة الاحتكار والعودة أحيانا للتسعيرة الجبرية وموازنة السوق ضد التجار المستغلين من خلال العودة لمنافذ توزيع تعاونية للسلع مثل الجمعيات التعاونية الاستهلاكية. إن تطوير الثورة لا يمكن أن يتم ونحن مازال لدينا ألف موظف عام في الحكومة يتقاضي كل منهم أكثر من مليون جنيه. موازنة الدولة ولعل الفترة الحالية، فترة إعداد الموازنة العامة للدولة للعام المالي القادم 2011-2012 هي فترة شديدة الأهمية لكي نكافح من أجل أن تنعكس الثورة علي سياسة المالية العامة: ففي الميزانية السابقة لم تحظ الصحة إلا بنصيب ضئيل لا يتجاوز 4.5% كما لم يتجاوز نصيب التعليم 9.8% من الإنفاق الحكومي. وكان نصيب الأسد في الموازنة من أجل الداخلية والدفاع. ولما كانت مقررات قمة الألفية التي ألقاها كوفي عنان تنص علي أن نصيب الصحة يجب ألا يقل عن 15% من الإنفاق الحكومي.