مناضلون يساريون الشيخ محمد عراقي حاربت الإنجليز بضراوة، وعلي مقهي في الزقازيق قابلت ضابطا إنجليزيا علمني الماركسية. محمد عراقي «في حواره معي» في قرية ميت القرشي مركز ميت غمر، ولد وعاش لأب فلاح شديد الفقر، ول «ميت القرشي» تاريخ مجيد خلال ثورة 1919 حيث خرج الأهالي ليقطعوا شريط السكة الحديد، وتصادموا مع قوات الاحتلال وسقط مائة شهيد، وتظل القرية تعيش ذكريات الشهداء وشجاعة المعركة، الآباء يحكون والأطفال يشعرون بالزهو، وتظل القرية تحكي حكاية الست صديقة، خرجت وهي عروس تقاتل مع الرجال وأصيبت بعاهة مستديمة في ساقها، الطلق الناري في الساق لم يوقف اندفاعها ضد الإنجليز حتي سقطت وعلي مدي سنوات كان القسم الأكثر تصديقا هو «وحياة الست صديقة»، الأم من «هرية رزنة» مسقط رأس «عرابي» وتمت له بصلة قرابة، وعندما عاد البطل من منفاه جلست تستمع إلي أحاديثه وظلت ترويها لنساء وأطفال «ميت القرشي»، الأب الفلاح الشديد الفقر كان خطاط القرية وكان يحفظ ما سماه الفلاحون «سورة الفدان» وهي طريقة غامضة وسرية تستخدم لحساب قياسات الأراضي حسابا دقيقا جدا وسريعا جدا، وعمل الأب في أكثر من حرفة ليكسب قوت الأولاد، فعمل بناء مباني، وكاتبا لتجار القطن وكاتبا للعقود وأوراق شرك المواشي، الأم خياطة لجلابيب نساء القرية، وهكذا أتي القوت وإن كان شحيحا، الأب بدأ يعلم الابن ثم أرسله إلي الكتاب، ويحكي محمد في حواره معي «كنت ولد شاطر، سريع الحفظ وحسن الخط وحفظت القرآن كاملا وأنا في الكُتّاب وحصلت علي مكافأة خمسة جنيهات وهو مبلغ ضخم في زمن كان أردب القمح فيه بسبعين قرشا، وأرسلني أبي إلي الزقازيق لأدرس في المعهد الديني، بدل الجراية كان 18 قرشا في الشهر، وعشت علي حافة الجوع، لكنني ظللت متفوقا وينجح الشيخ محمد ويلتحق بالمعهد الثانوي واقترب حلم أبي من التحقق، ولكن المظاهرات ضد الإنجليز بدأت وانغمس فيها حتي نسي المعهد ونسي كل شيء، انضم إلي الإخوان ألبسوه ملابس الجوالة، وأعطوه طبلة ليوقظ الناس لصلاة الفجر، لكنه كان يستهدف شيئا واحدا لتنظيم المظاهرات ضد الإنجليز، لكن الإخوان لم يتحمسوا. وبالمصادفة التقي علي قهوة البوسفور في الزقازيق ضابطا إنجليزيا شيوعيا وعن طريق مترجم أضاء له الضابط طريق الماركسية، وأنهي الشيخ محمد دراسته الثانوية والتحق بكلية أصول الدين بالقاهرة، بدل الجراية 78 قرشا شهريا وطبعا لا يكفي لكن الحلم الذي أشعله الجندي الإنجليزي لم يزل يغمره، وفي جلسة علي قهوة بشبرا ارتفع صوته مستعيدا لزملائه بعض ما سمعه منه، واقترب منه عامل نسيج شيوعي وضمه إلي تنظيم م. ش. م وتعلق الفتي بالنضال الماركسي، ترك الدراسة المنتظمة وذاكر في البيت، وحاول جهده تجنيد العديد من طلاب أصول الدين حتي عرف الجميع أنه شيوعي، وفي نهاية العام الدراسي وقف في امتحان الشفوي أمام الدكتور محمد البهي الشيخ الممتحن بادر الشيخ الشيوعي قائلا: «أنت لم تحضر أي محاضرة وأنت شيوعي ولهذا لن أسألك ولن تنجح طوال وجودي بالكلية حتي تعلن توبتك عن الشيوعية، وأمام الخيار الصعب اختار الشيخ محمد عراقي الشيوعية وأصبح محترفا ثوريا ينام في رواق الشراقوة أو في الجامع، ويحصل علي خبزه من القراءة والمذاكرة للمكفوفين، وبهذا واصل تعليمه لأصول الدين ونضاله الشيوعي معا. وأخيرا وجد عملا منحه فرصة الحديث عن أفكاره، فقد استعان بقليل من معرفة اللغة الإنجليزية بفضل محاوراته مع الضابط الإنجليزي، وعمل مدرسا للطلبة الأفارقة المبعوثين للأزهر، يعلمهم والماركسية معا مقابل خمسين قرشا في الشهر للطالب واكتشفه المسئولون فطردوه. وفي بداية 1950 انضم إلي منظمة حدتو فانفتح أمامه باب نضال جماهيري حقيقي سواء في حركة السلام أو في صفوف الفلاحين، وعقب صدور قرار حل الأحزاب في 16 يناير 1953 يلقي القبض عليه ويتنقل بين أكثر من معتقل حتي يصل إلي معتقل الطور فيفتتح هناك فصلا لمحو أمية الرفاق العمال والسجانة معا، وبعد جولة أخري علي سجون الصعيد يفرج عنه قبيل تأميم قناة السويس فسافر إلي «ميت القرشي» ليزور أهله لكن العدوان الثلاثي فاجأ الجميع فترك الأهل إلي حيث قرر الحزب معسكر الحلمية «أبوحماد شرقية» وهناك تحدث أكثر مما يجب عن الشيوعية سحبوا منه ومن رفاقه السلاح وأمروهم بالعودة للقاهرة، ويعود الشيخ المشاغب إلي الشغب النضالي حتي يقبض عليه في أول يناير 1959 وكان قد تزوج قبلها بأسابيع.. وفي الوادي الجديد زار المعتقل اللواء إسماعيل همت أمرهم بخلع ملابسهم تماما ووقف يستعرضهم فأفلتت من الشيخ ضحكة مكتومة، غضب اللواء وأمر بإحضار العروسة وجلد هذا المعتقل المشاغب، ذكريات الجلد مخيفة ففي بلدهم حكم علي خفير بالجلد سبع جلدات لأن جاموسة سرقت من دركه، ومات الخفير بعد الجلدة الخامسة، لكنه قرر أن يحتمل وأن يغيظ الباشا اللواء فكان يبتسم مع كل جلدة واللواء الغاضب يصرخ «عد» ومعناها أن يبدأ عد الجلدات من جديد، وبعدها أدرك الشيخ المشاغب أن الجلد لا يقتل فواصل الشغب، وتمضي سنوات الاعتقال الخمس بعد أن تعلم فيها الشيخ الإنجليزية وبعضا من الفرنسية، ويعود الشيخ إلي ميت القرشي، الحزب يحل حُلمه القديم يتلاشي أمام عينيه، وهو لا يجد خبزا للزوجة والأولاد، أبوه ترك له عدة أشبار من الأرض يزرعها دون قوت حقيقي ويدرس لأطفال القرية اللغة العربية والإنجليزية والغريب أنه أتقن علي يد أحد المدرسين الجبر والهندسة وحساب المثلثات فصار مدرس القرية في كل العلوم للفقراء، الدروس مجانية ومن يستطيع الدفع يدفع ومع أول أيام منبر اليسار جاء ليضع نفسه معنا وليسهم في بناء قاعدة فلاحية راسخة في عديد من مناطق الدقهلية وينتخب أمينا للفلاحين في الحزب، ويسهم في قيام اتحاد الفلاحين تحت التأسيس، وأصبح الشيخ واحدا من أهم الكوادر الفلاحية في مصر.. وفي انتفاضة 18، 19 يناير 1977 يقبض عليه، كان كل قلقه متعلقا بقوت الزوجة والأولاد، لكنه عندما يفرج عنه يكتشف أن الزوجة كانت تعيش في رغد من العيش، القرية ردت الجميل للشيخ المناضل الذي علم أطفالها.. وكل بيت أرسل للأسرة ما يستطيع والبعض الذي يخاف عيون المخبرين كان يأتي عند الفجر ليترك أمام باب البيت جنيها ملفوفا في قطعة قماش.. وتكاثرت الجنيهات حتي خرج الشيخ، ومرة أخري يعتقل الشيخ في 1979 ثم في 1981 ليكمل دورته علي كل سجون ومعتقلات مصر، ويواصل الشيخ المشاغب المناضل المعلم الفلاح نضاله في صفوف التجمع حتي آخر نسمات الحياة.