فنانون.. وفنانون شاركت في المظاهرة التي نظمها السينمائيون من مقر نقابتهم في وسط القاهرة والتي سارت إلي ميدان التحرير للالتحاق بثوار 25 يناير قبل أيام قليلة من الانتصار المجيد بتنحي رئيس الجمهورية، أخذت طيلة المظاهرة وقبل أن نتفرق علي أبواب الميدان كل من مدخل غير الآخر للالتحاق بالجسم الرئيسي للثورة أخذت أتأمل في وجوه السينمائيين وكان عددهم كبيرا جدا، لفت نظري أن عددا محدودا من النجوم المشهورين كان يسير في المظاهرة ميزت من بينهم «بسمة» و«محمد خان» و«صفاء الطوخي» و«خالد الصاوي» و«يسري نصرالله» و«زكي فطين عبدالوهاب» وعمرو واكد.. وآخرين. أما الكتلة الرئيسية للمظاهرة فتشكلت من وجوه غير معروفة شبابا وشيوخا رجالا ونساء من العاملين بالسينما في كل فروعها. والتحقت جماهير غفيرة بالمظاهرة ربما كان بعضها يتطلع لرؤية نجوم السينما عن قرب والمقارنة بين صورهم في السينما وأشكالهم الواقعية، فهؤلاء النجوم بالنسبة للجمهور هم صناع الأوهام والأحلام الجميلة، وهم أيضا الذين يعيشون حياة أقرب إلي الأساطير أغنياء ومرفهين. وبعد أيام قليلة من سقوط «مبارك» وبعض أركان نظامه اندلعت مناقشة كبري تشابه المعركة بين مجموعة من الفنانين كانوا قد أيدوا النظام السابق وعبروا عن هذا التأييد إيجابيا بالمشاركة في المظاهرات المؤيدة للرئيس، بل ووجه بعضهم الشتائم والاتهامات لثوار 25 يناير، أما الطرف الآخر في المناقشة فكان غالبية الفنانين بعضهم من المشهورين والأكثرية من الأقل شهرة وغني أيدوا الثورة دون أي تحفظات، وعبروا بوضوح عن هذا التأييد سواء بالتواجد اليومي في ميدان التحرير أو بإرسال الأدوية والمأكولات للمتظاهرين والحديث في وسائل الإعلام المختلفة تأييدا للثورة حتي قبل سقوط الرئيس، وكانوا في تلك المواقف الشجاعة يجازفون بمصالحهم وبوجودهم ذاته في قلب مجتمع السينما الذي يتحكم فيه بعض أشرس ممثلي النظام الذين يمنحون ويمنعون، خاصة أنه كانت هناك أيام لم يخطر علي بال أحد فيها أن الرئيس سوف يتنحي والنظام سوف يتداعي. وبين من اختاروا هذا الموقف الشريف الذي لم يخضع لأي حسابات سوي الولاء للشعب، حيث إن العقول المفكرة والقلوب الكبيرة تبقي دائما مشدودة بخيوط خفية للشعب ومصالحه أقول بين هؤلاء من خان فعليا وعن وعي مصالح طبقته المرتبطة بعلاقاتها برجال الرئيس، ذلك أن هذا الموقف من ثورة الشباب والذي ساندها وشارك فيها نبع من وعي نقدي عميق رفض من حيث المبدأ التجليات الزائفة التي يفرزها المجتمع الطبقي حيث تقوم الدولة بإشاعة فكرة ملفقة تقول إن ثمة وعيا عاما وقضية عامة يتشارك فيها الجميع علي قدم المساواة.. وأن هناك مصلحة واحدة للجميع في مثل هذه القضية العامة، والحقيقية هي أن هناك مصالح متناقضة وقضايا عامة مختلفة باختلاف هذه المصالح. وقد اختار هؤلاء الذين أيدوا الثورة أن يقدموا - إذا ما استطاعوا - فنا مختلفا عن السائد فساندوا بذلك الثورة حتي قبل أن تندلع حين رفضوا أن يخضعوا لمنظومة القيم والرؤي والتصورات الزائفة التي تنزع عن الفن روحه الرسالية الجمالية وتضعه في الإطار التجاري الاستهلاكي كمادة تسلية وترفيه، وعلي العكس من ذلك وضع هؤلاء كل ما هو سائد موضع تساؤل أي العلاقات والقيم والأفكار وأشكال السلوك والسياسات، وكانوا قادرين بوعيهم واختياراتهم أن يفتحوا الباب أمام المتلقي لطرح الأسئلة الكبري عن الوجود الإنساني والعلاقات الاجتماعية وبناء تصورات ورؤي بديلة وممكنة للعالم الذي يتفسخ تحت وطأة الظلم والاستغلال والقبح أي أن إسهاماتهم لعبت دورا تحريريا شارك في تهيئة المناخ وحرث الأرض للثورة، ولم تكن مصادفة أن أغنيات كل من سيد درويش والشيخ إمام عيسي ومحمد منير وعلي الحجار وأشعار أحمد فؤاد نجم وسيد حجاب والأبنودي كانت تتردد في الميدان وفي كل أنحاء الجمهورية في أيام الثورة في إشارة لا تخطئها العين لحقيقة أن جيل الثورة هذا لم تنقطع صلته بالتراث الفني والثقافي التحرري الذي تراكم علي مدار التاريخ الوطني منبثقا من الثورات أو مبشرا بها ومحرضا عليها، ولعل ما أبدعته الروح الجماعية للثوار في الثمانية عشر يوما التي هزت العالم أن يشكل زادا لهؤلاء الفنانين الذين اختاروا الإنصات لنبض الشعب ويكون محرضا لهؤلاء الذين وقفوا في الجانب الآخر ليعيدوا النظر في مواقفهم واختياراتهم.