فتحت كتب التاريخ صفحاتها البيضاء، لتدون أساطير شباب 25 يناير، تكتب بالصدق قصائد الحياة والخلود لكل البائسين الحالمين بصباح جديد مشرق يملؤه الخير والأمان، كل الأشياء أصبحت مباحة، ولم يعد هناك مستحيل، بعدما تناثرت دماء هؤلاء الأبرار علي جدار الوطن لتروي تفاصيل ذلك اليوم المشهود وما تلاه من أحداث خرجت بمصرنا من نفق الظلام إلي طاقات النور، وستذكر كل الأجيال بأن سريان النهر الذي جفت ينابيعه طوال قرون سحيقة عاد مرة أخري ليروي كل الأراضي البور التي ظلت مهملة. ويعطي الدروس الجديدة في ساحة النضال ليتعلم منها كل الشعوب التي تتطلع للتحرر والاستقلال. توافدت براعم الوطن جنبا إلي جنب لتملأ الفراغ الهلامي وتفرض سطوتها ويصير الخيال حقيقة تزلزل الأرض وتقذف بكل الأقوال الفارغة والعبارات المثبطة علي أكوام البلاهة والتنطع، تري فيما كانوا يفكرون عندما واتتهم فكرة الالتقاء في ميدان التحرير، هل تمني أحد منهم الشهادة، أغلب الظن أنهم لم يفكروا حتي في الموت، ولم يهتموا، كانت غايتهم الوقوف في وجه الرجعية المستبدة، والتعبير عما يجول داخل قلوبهم النقية، تمنوا وطنا حرا يحتمل أحلامهم وطموحاتهم، تركوا بيوتهم وهم في حالة نشوة لم يتسع الوقت للمناقشة او التفكير فيما هم قادمون عليه، توافدوا وربما هرولوا لمصيرهم الجميل، البعض قبل أمه عند الخروج، وآخر لم يشأ إزعاجها، وكثيرون تعاملوا بفطرة الزاهدين، لم يتعد الأمر عند كثيرين سوي سويعات قليلة يؤدون خلالها رحلة البحث عن قرص الشمس الملتهب المسمي بالحرية، حاولوا ان يصرخوا في وجه العالم، معلنين عن أنفسهم دون إيذاء احد، أو إلحاق الضرر بفئة ما، بعضهم استيقظ واغتسل وصلي وراح يلقي ربه، وآخرون تواعدوا علي قضاء حاجات أسرهم في الطريق، وآخرون ارجأوا حاجياتهم لوقت لاحق. انتهي النهار أو كاد، وحل الليل أو كاد، وانتظرت الأمهات بقلوب صابرة عودة أبنائهن، ينصرم الليل أو يكاد، وتأتي الأخبار الموحشة من هنا ومن هناك، ويعتصر القلب وترتجف الأجسام وتذرف الدموع ويستبد القلق بالأمهات، ويصبح الانتظار لا يحتمل، وتأتي الأخبار تباعا بسقوط شهداء، وكثير من الشباب لا يعودون، وتتوالي الأسئلة ولا احد يجيب، بعد أن حلت علامات الاستفهام المكان وفرضت سطوتها، ويزيد الأمر سوءا عندما تنقطع كل سبل الاتصال، لتزداد الوحشة وليستبد القلق بالجميع، وتتطاير أنباء عن استشهاد واحد واثنين وثلاثة والعداد الجهنمي لا يمل من تمزيق القلوب، لكن الأمهات مازلن ينتظرن الفرج الذي لا يأتي، يسقط الأبناء في حضن الوطن وبين أيادي أقرانهم مبتسمين رافعين الجباه.. لكن الأمهات مازلن ينتظرن خبر الشهادة لتدوي آه في الأرجاء تكسر كل سبل الصبر وتستبيح كل محتمل، ولا يبقي سوي الصبر علي الابتلاء، يموت الشباب وهم صابرون مسالمون حالمون مؤمنين، لم ترتفع أياديهم إلا للهتاف والدعاء، بأجسام عارية مستسلمة إلا من الإيمان .. "ثورتنا بيضاء.. نريد حقنا في وطن حر"، لكن رصاصات الغدر تأبي للحلم أن ينطلق فتتسلل وتلتقطهم واحدا تلو الآخر، وتستبيح المكان دون حياء، محاولة ان تسكت صوت الحق الذي ظل يتردد في المكان ولم ينقطع، يموت الشباب ويستشهدون في أرض الميدان ويكتب التاريخ الشهادات العظيمة ويسجل أسماءهم وملامحهم ليكون 25 يناير اشرف وأطهر أيام الوطن. لا توجد معركة بغير ضحايا، لكنها لم تكن معركة، فلماذا يموت الأبرياء من دون ذنب أو جريمة، يموت الأبناء وتموت الأمهات أحياء حزنا وكمدا ، يرتشفن النار ويكتوون بلوعة الفراق علي فلذات أكبادهن ونور عيونهن، لكننا نلمح في المقل بسمات صافية عاد يملؤها الفخر والكبرياء بهؤلاء الشباب الرجال. يحتضن الرفاق جثامين الشهداء في مشاهد إعجازية لم ندركها من قبل ولم تسجلها الكاميرات، وتتشابك الأيادي ليزف الأبرار إلي قبورهم محملين علي الأعناق، لكن الأرض مازالت تحمل رائحتهم الذكية التي تلف المكان وتنشر الأمل للكثيرين ليواجهوا بقلوب صابرة مؤمنة المصير ويتمنوا بإصرار وعزيمة أن يلحقوا بالرفاق. هناك فتاة وقفت علي ناصية الطريق تخطب الموت حبيبا أبديا فداء للوطن، ظلت عيناها محدقتين في الأفق البعيد وكأنها تتبادل حديث الحياة الأخير، وربما فتحت ذراعيها والتقطته لتحضنه وتمضي. وآخر تحلق حول الحلم وعندما هم بملامسته خطفه فأطلق ضحكة النهاية الجميلة وظن البعض إنها لوعة الموت ومضي، أمثلة كثيرة وجديدة لم يخطها قلم من قبل، ولم تشهدها عين، وستظل ناموسا وعهدا لكل الحالمين، إن مصر أرض يولد من رحمها الحياة لتهب للآخرين البقاء. تظل الأمهات الصابرات المؤمنات يتذكرن المشهد الصلب برحيل الأبناء، ربما تتسلل أحداهن الغرف المغلقة الخاوية من سكانها، وتلقي في عبث ملائكي حوارا مع شهيدها ووليدها، وأخري تتحسس ملابسه وتشتم رائحته الذكية وتطلق للعين طوفان الدموع الذي لا يتوقف، ومنهن من غسلت ملابسه الملطخة بالدماء حتي إذا ما أتي ارتداها، وأخري رتبت حاجياته وأعدت الطعام وظلت تنتظر الغائب، وآخريات لم يصدقن بعد الرحيل يقفن بالشرفات يراقبن الطريق لئلا يعود من هنا أو من هنا، وصابرات احتسبن أبناءهن عند الله، لكن من قتل الأحباب وفرق شملهم وسدد بيده المغلولة الطعنات في صدور هؤلاء الأبرياء. هناك أيضا جنود غلابة بسطاء راحوا في الصدام، منهم من تلقي حجرا ليسقط علي الأرض دون أن يفهم لماذا أتي الميدان؟ ولماذا مات؟ تاركا زوجته في حملها الأول، وحسرة والديه، وطفل لم يولد بعد للحياة، وربما بكي في أحشاء أمه. وراح من يحاول تسجيل الاحداث فروعه الموت بطلقة من قناص يختبئ بأحد الاسطح، ولم يكن مع ذلك أو تلك. وهناك رجال الدفاع المدني من رجال الشرطة الذين كانوا يخمدون نارا في عقار بالحرفيين لم تكن اقوي من تلك النار المشتعلة في التحرير، افرغوا البيت من سكانه، لتسقط الجدران عليهم ويستشهدون بعدما آمنوا الخائفين. وذلك الجندي البائس الذي يقبع في برج عال يراقب المدي البعيد علي حدود مصرنا دون سلاح أو عتاد فيتلقي رصاصة من آثم، وآخر يتعقب فاسدا او لصا رافضا لكل الإغراءات المادية رغم معاناته الشديدة مثل أبناء بلده، وآخرون عز عليهم الهروب وأبوا ان يتركوا مواقعهم دون الموت، فماتوا في زحمة الأحداث، لكنهم لم يخونوا ولم يفرطوا وظلوا يدافعون حتي آخر قطرة من دمائهم الطاهرة، فليس من العدل النسيان أو التجاهل. كل هؤلاء الأبطال مع اخوانهم الشباب يشكلون ضفيرة واحدة تزين مصر وتحتمي بها وتقويها وتدفعها إلي الإمام. قائمة طويلة ممن طالتهم اليد المغلولة وتركت آثارها عليهم، من فقأ عينه ومن بتر ساقه، لتتزين أجسامهم بإصابات ستظل لؤلؤا ترصع رايات الوطن ويتباهي بها وسط الأمم. أن ما حدث في ميدان التحرير سيظل عالقا في الاأهان مسجلا تاريخا جديدا ليس لمصر فحسب وإنما لكل شعوب الأرض التي تبحث عن الحرية، ألف سلام وتحية لكل الشهداء الأحرار علي مر التاريخ والعصور.