في هذا الجزء من رسالته إلي صديق إسرائيلي التي نشرها المفكر الفرنسي التقدمي «ريجيس دوبريه» في كتاب صدر مؤخرا، يبين الكاتب صور التعنت الإسرائيلي واستقواء حكومات إسرائيل المختلفة بالصديق الأمريكي حتي أنها وضعت نفسها فوق كل من القرارات والقوانين والاتفاقيات الدولية والتقاليد الدبلوماسية . ويري دوبريه أن هذه المواقف المتعالية كلها سوف تنتهي حتما بخسارة إسرائيلية كبيرة في صراعها مع العرب، وموقفها ضد العالم. ويحلل "دوبريه" الأسباب التي أدت إلي تصلب السياسيين الإسرائيليين بإعطاء شواهد علي ذلك: "فالطبقة الحاكمة في إسرائيل تنفذ فكرة جوهرية وهي "عدم الانصياع للضغوط". فالصديق الغربي عليه ضمانة إمداد السلاح والأموال والمهاجرين و"الفيتو" وليس له حق المحاسبة أو التدخل." ويضيف" إن هذا لا يساعدكم حقيقة إذ أن "الفيتو" الأبوي التلقائي لمواجهة قرارات مضرة لكم يجعل من "الملك المراهق"، أي إسرائيل، طفلا مدللا.". ويضيف لذلك موقف إسرائيل الرافض باستمرار للتقارير الدولية حينما يتعارض الأمر مع مصالحها أو تنتقدها فيقول: "كل التقارير التي قامت بها لجان نتيجتها بالنسبة لكم هو الرفض مثلما كان الحال مع تقرير اليهودي "جولدستون"، المتعاطف مع إسرائيل، والذي رفضت حكومتكم التعاون معه. فحكومتكم تعتبر كل مخالف لها نيته ارتكاب جريمة قتل جماعي لليهود." ويواصل دوبريه الكلام عن انتهاكات إسرائيل للقوانين الدولية: "ولأنه يتم منحكم كل شيء فإنكم لا ترفضون شيئا وتستخدمون أكثر الأسلحة تقدما بما في ذلك ما هو محرم منها دوليا وتنتهكون كل اتفاقيات "جنيف" بما في ذلك التنقيب والبحث الحفري. وتمارسون الترحيل القهري للمدنيين بالأراضي المحتلة. وترفضون التوقيع علي الاتفاقيات الإضافية التي قد تقود إلي تعرضكم للمقاضاة أمام "محكمة العدل الدولية" في "لاهاي". علاوة علي ذلك فإن الرؤوس النووية لديكم لا تخضع للتفتيش والمراقبة." ويعرج "دوبريه" إلي المعاملات المهينة التي يتعرض لها السلك الدبلوماسي حتي من الدول الصديقة لإسرائيل فيقول: "أما بشأن اتفاقيات "فينا" الخاصة باحترام الحقيبة الدبلوماسية والدبلوماسيين والحافلات فهي تنفذ في كل بقاع العالم إلا لديكم." ويذكر حوادث واقعية للتدليل فيقول: «إن دبلوماسيا فرنسيا حجز 17 ساعة دون ان يقدم له الطعام والشراب عند نقطة تفتيش "إيريتز". بل إن قنصل فرنسا العام تم احتجازه ثلاث ساعات في حجرة ضيقة في "بيت لحم". ويضيف ساخرا: "وأمام هذا كان رد فعل باريس هو تصبب جبهتها عرقا". ويستنتج: "فيجب أن نكون أتراكا للإصرار علي اعتذار وتلقيه أما كفرنسيين فعلينا ان نقدم الخد الآخر.". ويواصل: "السلطة التي لا تقبل المساءلة عن أفعالها هي سلطة غير مسئولة تعاني من جنون العظمة أو مغالية. فبعد التقرير الذي قدمه السيناتور الأمريكي "جورج ميتشل" وتعارض نتائجه مع تصريحات الحكومة الإسرائيلية، في 2001، صرح "أريل شارون" : "ليس لأحد الحق .. لا أحد يملك حق تقديم إسرائيل أمام المحاكم الدولية". ويضيف "دوبريه": "فليكن. ولكن لنكف إذن عن الكلام عن دول مارقة." ويضيف: "لذا فإذا كان التحامكم بالغرب يمنحكم المناعة فإن انفصالكم عن الشرق يعرضكم لانعدام الأمن." نهاية الحصانة ويواصل "دوبريه" التعبير عن هواجسه في شأن تطور العلاقات الدولية بالقول أن إسرائيل قد لا تتمتع بحصانة مماثلة للتي تتمتع بها الآن من قبل روسيا والصين والبرازيل والهند بعد عشرين سنة عندما يصبح الإنتاج الداخلي لتلك الدول متجاوزا للولايات المتحدة وأوربا. و"أن القلق آت من الشرق إذ كلما تزايدت التوجهات الإسرائيلية نحو الغرب آدار العالم الإسلامي ظهره لإسرائيل. ويزداد الأمر صعوبة بالابتعاد السريع عنكم من قبل تركيا حليف إسرائيل العسكري والاقتصادي والسياسي." ويتصور "دوبريه" عالم الغد كسياج حول إسرائيل فيقول: "الواقع يكشف عن توسع الجبهة الإسلامية التي تحاصر إسرائيل بانضمام اندونيسيا وإيران وغيرهما إلي معسكر المناهضين. علاوة علي ان الدول التي عقدت اتفاقيات "سلام بارد" مع إسرائيل مثل مصر والأردن تحمل شعوبها عداوة متزايدة لإسرائيل." ويضيف تحليلا للتحول الثقافي للمجتمعات الشرقية وكأنها ستخطو حتما نحو أحادية فكرية فيقول: "إن هجرة يهود الشرق بعد حرب 1967 لإسرائيل كان كارثة إذ نتج عنه سيادة أحادية فكرية إسلامية في تلك المجتمعات وهو ما بدأ يحدث أيضا الآن فيما يخص نزوح الجاليات المسيحية من بعض الدول العربية. فهذه الهجرات في رأي "دوبريه" هو ما يخلف عنه "جفاف حضاري" وبسببه يمكن فهم رفض هذه المجتمعات لتقبل "زرع جسم غربي" بها، أي للقيم الغربية. وهو خبر سييء لكل الأطراف." أما أوروبا فهي ليست إلا كالشبح الهارب إذ تدعو الفلسطينيين لإجراء انتخابات وتقر بصلاحيتها إلا أنها ترفض النتيجة لأنها لا تروق للإسرائيليين. ثم في خطوة أخري تجعل أوربا من إسرائيل الشريك الذي يتمتع بامتيازات وتشاركه في مشروعاته وتدفن رأسها في الرمال. أما كل المشروعات الأوربية مع الفلسطينيين فتحفظ في إدراج الاتحاد الأوروبي في "بروكسل." ويتعرض لتفاصيل العلاقة الأوربية مع الفلسطينيين وخضوعها للأهواء الإسرائيلية فيقول: "ولم يطأ الأراضي المحتلة من بين أعضاء البرلمان الأوربي البالغ عددهم 785 إلا 12 منهم علي الأكثر. ورفضت إسرائيل دخول 20 قنصلا أوربيا يصاحبهم عدد من الوزراء ولم تنبس أوربا بكلمة احتجاج. فقط تكتفي أوربا بعقد مؤتمرات وندوات عن المستقبل المشرق للفلسطينيين والتقاط صور تذكارية.". وتظهر التناقضات الدولية التي تتحمل سياسة التدمير الإسرائيلية: "أوروبا التي تمول تشيد مطار صغير وشبكة كهرباء ومشروع تطهير للمياه وتدمرها طائراتكم في ثلاث ثوان في كل مرة شاءت تدميرها. فأوربا لا تعوض فقط أضرار حروبكم ولكن تدفع أيضا الأموال الضرورية لسير شئون الخدمات العامة التي تقع علي مسئوليتكم وعليكم الالتزام بها في وقت الحرب أو الاحتلال طبقا لاتفاقية "جنيف". ومن يدفع له كلمة يقولها غير أن أوربا توقع علي الشيكات وتنصرف في صمت. فالضفة الغربية هي بالنسبة لكم أراضي استعدتموها ولكنها ارض محتلة طبقا للقانون الدولي، وبالتالي فأوربا بتصرفها تعينكم علي الالتفاف علي القانون الدولي.. أما التعليقات التي تصدر في الغرب فهي: "الأسف والقلق وعدم الموافقة تلك هي أقصي كلمات ردود الفعل علي سياستكم طوال 30 سنة في تشيد المستوطنات أي إدانة دون عقاب ولو لمرة واحدة. فالمهم هو عدم إغضابكم نظرا لحساسيتكم كما يعرف الجميع." ويضيف تحليلا نوعيا كخبير في الإعلام وموجها كلامه لصديقه: "لعلك لاحظت أن الدول الأوربية التي لم تسقط تحت الاحتلال النازي تترك الحرية للمراسلين في إسرائيل كتابة تقاريرهم دون تخفيف اللهجة. وتقوم الكنائس والجمعيات الإنسانية بالتحدث بنبرة حرة بما في ذلك النشاط من اجل توقيع نداءات وبيانات من أجل القدسالشرقيةوغزة ولبنان. بينما تلاحظ أن ألمانيا تتحفظ تماما بشأن تلك القضايا الشائكة. أما فرنسا فموقفها معتدل وايطاليا في وضع وسط. فبريطانيا دولة يتحاشي الذهاب إليها جنرالاتكم بعد حرب غزة لأنه يمكن القبض عليهم عقب خروجهم من الطائرة بناء علي مجرد أمر من أحد القضاة. في حين تتمتعون بأمن كامل في أي دولة كان اليهود يعيشون فيها قبل عدة عقود في انعدام أمن تام. ويمكن ملاحظة ظاهرة مدهشة بشأن الكنائس المسيحية فالكنائس التي تمثل أقليات هي الأكثر اعتراضا مثلما هو الحال بالنسبة لأتباع الكنيسة "الانجليكية" و"الارثوذكية" و"اللوثرية" في الدول "الاسكندينافية" فهي كنائس تسمي الأشياء بأسمائها وتنحاز للمسيحيين العرب. بينما الكنيسة "الكاثوليكية" وخاصة الكنيسة الفرنسية فتهتم أكثر بالصداقة اليهودية المسيحية عن الإخوة بين الغرب ومسيحي الشرق. خرابكم وخرابنا ويخاطب "بارنافي" قائلا: "أنت محق في كتابك "الآن أو ربما هيهات". إذ أصبح عاجلا التوقف عن هضم المزيد من الأراضي الفلسطينية وهو الهضم الذي كاد يكتمل وفي تحققه خرابكم وخرابنا. فخوف الدولة العبرية في أن تصبح يوما أقلية في بلدها يدفعها للعمل علي تفريغ الأرض من السكان العرب وتحويلهم لمواطنين من الدرجة الثانية ووضعهم في جزيرة محاصرة. لن نقول تفرقة عنصرية فالكلمة سيئة السمعة.". فالمستقبل الذي أخشاه هو أن تستأنف حرب المائة سنة، التي مازالت في منتصفها، ويكون القسم الثاني منها في غير صالحكم وليس كما حدث في القسم الأول.