«ابن آني» وفلسفته رغم أن المؤلف أحمد فواد درويش يقدم نصه «ابن آني» الذي أنتجه ضمن إبداعات التفرغ بالمجلس الأعلي للثقافة باعتباره رواية، فإننا نجد أنفسنا أمام نص يجمع بين المسرحية والسيناريو السينمائي مع وشائج ضعيفة تربطها بفن الرواية وهو ما يجعلنا نتعامل مع «نص» طموح، ينبع طموحه من محاولة التجديد في الشكل من جهة، ورؤيته لتناقضات الحضارة المصرية القديمة من جهة أخري، وتطلعه لمعالجة قضايا الحاضر حول تجديد الخطاب الديني في قالب صراعي مستمد من وقائع جرت في مصر القديمة وعبر شخصيات من عالمها من جهة ثالثة. عاش الكاتب المصري القديم آني عام 1350 قبل الميلاد حيث كانت مهنة الكتابة هي أرقي المهن المدنية، وكانت الكهانة هي أرقي المهن الدينية، وكان «آني» الذي يقص الكاتب حكايته مع ابنه أحد كتاب الملك، وكاتب القرابين المقدسة لكل الآلهة ولسادة طيبة، ومدير صوامع غلال سادة أبيدوس لما كان يتصف به من أمانة. وبردية آني هي الخروج إلي النهار كما يخبرنا الكاتب الذي يقول :إن الشائع عنها هو «كتاب الموتي» وهي تسمية غير دقيقة ذلك أن المصريين القدماء هم الذين ابتدعوا مفهوم العالم الآخر ولعل الذين قرأوا كتاب المفكر الدكتور سيد القمني «أوزوريس وعقيدة التوحيد في مصر القديمة» أن يعرفوا الكثير عن هذه الحقيقة وغيرها عن نشوء وتطور الأديان ودور المصريين التأسيسي في هذه المسيرة الطويلة المعقدة، وإضافاتهم المبدعة لها. و«لآني» كاتب الملك ابن وحيد متمرد علي التقاليد البالية يعتز بحريته ويتطلع إلي مستقبل تكون هذه الحرية هي مفتاحه ومحركه الأول، وكان «خونسو» شأنه شأن كل المجددين العظام في تاريخ البشرية مهموما بقضية العدل نافرا من طبقة الكهنة الذين يحرسون ديانة آمون رع منذ آلاف السنين حماية لوجودهم وثرواتهم المتضخمة. كان «خونسو» أيضا مناصرا لتعدد الآلهة لأن تعدد الفكر يفتح الباب للأسئلة وروح النقد والتجديد، ويشجع علي مقاومة الجمود والتخلف ، وإن كان قد فات المؤلف، وعينه وقلبه علي الحاضر أن هذه القضية حول الفكر النقدي تختلف في مجتمع إقطاعي هو المجتمع المصري القديم، عنها في مجتمع رأسمالي معاصر يختلف بنيويا عن المجتمع القديم، خاصة أن شخصية هذا الفتي المتمرد هي بمجملها من صنع المؤلف المعاصر وليس لها أساس تاريخي كما يخبرنا، كما أنها الشخصية المحورية في النص والتي يعرضها المؤلف بعد موتها المفاجئ إلي رحلة طويلة في البر الغربي بعد التحنيط لتمارس طقوس البعث وتذهب إلي جنة الحياة الآخرة. وهنا أتوقف أمام لحظة في العمل تطيح بمكونات الأسطورة وإن بهدوء ونعومة، إذ يكذب «خونسو» علي الآلهة التي تنصب له ميزان الحسنات والسيئات دون أن تكتشف الآلهة كذبه رغم أن الإله «تحوت» يقول «ليس هناك بشر يستطيع الكذب علي الآلهة» وتتحطم الأسطورة بهدوء. وهنا نجد أنفسنا أمام نقطة الضعف الأساسية التي تقلل من أهمية النص ومغزاه، فالبطل يكذب علي الآلهة ليس فيما يعتقد، وليس في رؤيته لضرورة التجديد ورفض التكفير، وإنما في علاقاته بالنساء في خمس عشرة صفحة كاملة حيث يحكي «خونسو» تفاصيل ممارساته الجنسية وبعضها «مقرف» علي حد تعبيره، وهي جميعها صفحات خارج السياق تفتقر إلي اللغة الأدبية لتصبح أقرب إلي كتابات الإثارة الجنسية الفجة، ويأتي - عرضا - نصح أبيه له «ألا تغتر بمالك، ولا تعتمد علي مال غيرك.. ولا تأكلن الخبز إذا كان هناك آخر يتألم «من عدمه» دون أن تمد يدك إليه بالخبز». ويوافقه الإله أوزير علي أن «زيادة ثروة الفرعون والنبلاء والكهنة من ناحية، وازدياد فقر أهالي مصر من ناحية أخري أمر يجب التصدي له». ومن ثم يغفر له أوزير خطيئة الزني ويدعوه إلي الجنة التي يذهب إليها مطمئنا رغم أنه كان - أي خونسو - بطبيعته شكاكا وناقدا وكان قد أنشأ صالونا للمعرفة في بيته يناقش فيه الحاضرون قضايا المعرفة والفلسفة، وهذا الصالون هو نفسه عمل مواز لتوجه تعليمي أساسي في النص يمكن أن يمد الأجيال الجديدة بمعرفة موثقة عن حضارة أجدادهم، وفي هذا السياق نفسه يفرد المؤلف صفحة خاصة من ستة سطور بعنوان «الجوعي» حيث يتزاحم الجوعي علي مقبرة «آني» ويتخاطفون كمية الطعام المتروكة من عائلة «آني» كقرابين للآلهة في إشارة ذكية إلي أن المجتمع الطبقي في كل زمان ومكان يستبعد ويهمش المحرومين حتي من الطعام وينتج عنه الجوع والألم واليأس. رغم أن هناك مراجعة لغوية قام بها «خالد الصاوي» لهذا النص فإن به أخطاء لغوية كثيرة بسيطة ومتكررة ومادام الكاتب قد اختار اللغة الفصحي فمن شروطها أن يحترم صحتها بأعلي قدر من الدقة، علي أي حال نحن بصدد عمل يستحق القراءة.