بعد مرور ثلاثة أعوام على قيام ما سمى ب «ثورات الربيع العربي» يتبادر سؤال مهم وهو: هل تم التأريخ الحقيقى لهذه الثورات؟ أعتقد أن هذا أمر جوهري، للدخول إلى قراءة اللحظة الآنية، تلك اللحظة المتشابكة والشائكة فى آن، فهناك كثير من الوثائق لم تظهر بعد، وكثير من الحقائق لم ينطق بها عارفوها هذه الثورات التى غيرت مسارين أساسيين فى العالم العربى الأول المسار السياسى بإزاحة نظم استبدادية قمعية فاسدة، والثانى المسار الاجتماعى خاصة على مستوى البنية الشخصية للمجتمعات التى قامت فيها هذه الثورات حيث تحولت الجموع الغفيرة من أبناء الشعوب من حالة الكمون إلى حالة الفعل الثوري. وأظن أن قوة الحدث التى تخطت معدلات أعتى البراكين والزلازل، وتحولات الحدث نفسه من لحظة إلى أخرى هى أمور تستعصى على الكتابة الفورية، وبهذا يمكننا أن نقول إن أغلب ما تمت كتابته عن الثورات العربية هو من باب رصد الحدث لا التعمق فى أسبابه أو تحليل نتائجه، أو البحث عن التفاصيل شديدة الإنسانية به – رغم أن – هذا الحدث فى حد ذاته – بالغ الإنسانية بما فيه من مناداة بأبسط الحقوق التى خلق الإنسان من أجلها «الحرية والعدالة الاجتماعية – ولقمة العيش والكرامة الإنسانية». تجربة شخصية هناك كتب كثيرة وأعمال إبداعية لشعراء وقصاصين كتبت عن الثورة المصرية، وبالمثل هناك بعض الإبداعات عن الثورة التونسية، وكذلك هناك بعض الكتابات عن الثورة الليبية. وأغلب هذه الكتابات تغلب عليها لغة المباشرة، ومعالجة الحدث إبداعيا بشكل سطحي، وأظن أن الكتابة الحقيقية عن هذه الثورات يحتاج إلى وقت طويل. لكننى وجدتنى حين بدأت فى قراءة كتاب «سيرة فبراير.. تجربة شخصية» للأديب والناقد والمناضل الليبى إدريس المسمارى أقف على كتابة مغايرة وحقيقية بها كثير من الأسس والتقنيات الجمالية التى تعلى من قيمة ما يسمى ب «الأدب الثوري»: أول هذه السمات: هو دقة الوصف، ورصد المشاهد من أبعادها المختلفة، وزواياها المتعددة. وثانيها: صدق الطرح، بلا مبالغة، أو مجاوزة أو تغاضى عن أحداث مقابل إبراز أحداث أخري، أو محاولة الإعلاء من شأن الذات لكسب مجد ذاتى أو ادعاء بطولة ما. فالكاتب كان مشاركا أساسيا فى أحداث الثورة، وهو من جيل المثقفين الليبيين الذين مهدوا للثورة بكتاباتهم ومواقفهم السياسية لدرجة أنه وكثير من رفاقه دفعوا الثمن غاليا من حريتهم فى سجون «القذافي». على مدار أكثر من ثلاثين عاما، والمناداة بالحرية والتغيير كانت قرينة تجربتهم الإبداعية والسياسية. ثالث هذه التقنيات التى اعتمد عليها «المسماري» هو سلاسة السرد، فجاء الكتاب أقرب إلى اللغة الروائية، وعلى حد تعبيره فإن «هذه السيرة تكتب لمرة واحدة» بمعنى أن دفقة الصدق – التى تحتويها – وكتبت فى إطارها أعطتها من السلاسة وتضافر الصور وتلاحقها بشكل دينامى متفجر، وكأنما كتبت فى جلسة واحدة، رغم صعوبة كتابة هذا النوع من السير الذاتية، خاصة أن جزءا كبيرا من الكتاب تدور أحداثه داخل «السجن» الذى قضى فيه الكاتب أياما بعد بدء شرارة الثورة الليبية حيث شارك فى أول تظاهرة فيها فى مدينة بنغازي، ووقف ليخطب فى شباب المتظاهرين قائلا: «هذه ليبيا بلادكم.. ومن حقكم أن تقودوها بأنفسكم». وكتابة «أدب السجون» بالغة الصعوبة – لكنها فى نفس الوقت شديدة الخصوصية وهناك نماذج كثيرة فى الأدب العربى فى هذا الإطار أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر «حملة تفتيش» للدكتورة لطيفة الزيات، و»يوميات الواحات» لصنع الله إبراهيم، و»احتفالية المومياء المتوحشة» لمحمد عفيفى مطر، و»السجن دمعتان ووردة» لفريدة النقاش، وعدة نصوص قصصية تحت عنوان «سجينات» لأبوالقاسم عمر الككلى وغيرها من الأعمال. لحظات قاسية لكن الكتابة فى «سيرة فبراير» مختلفة من عدة زوايا أولها: أن الكتابات السابقة تتحدث عن تجربة الاعتقال السياسى لفترات ولسنوات إنما «سيرة فبراير» تؤرخ للحظة قاسية بين «توهج الحلم بخروج الجماهير، وطغيان «القذافي» وزبانيته الذين راحوا جاهدين – لإجهاض هذا الحلم لكنه كان أقوى من أسلحتهم جميعا. فما بين اليأس والرجاء ما بين انتظار الصبح وقسوة الظلام، ولدت «سيرة فبراير» لتؤرخ وترصد، بلغة تقطر ألما وشجنا ومعاناة، لكنها تحمل – فى الوقت نفسه – دعوة للتواصل والتعرف عن قرب على ملامح إنسانية بطولية تمثلت فى شخصية المؤلف، وكثير من الشخصيات التى وقفت بجواره فى محنته التى كانت هى بالأساس «محنة وطن». خبرات إنسانية الكتاب فى مجمله يمثل حالة معرفية من الكتابة، تتجمع فيها كل الأزمنة، وكل الخبرات والثقافات التى حصلها الكاتب، الذى كان الحلم يكبر بداخله – رغم الممارسات العنيفة التى وجهت ضده – أثناء فترة اعتقاله أيام الثورة، الحلم بوطن يسوده العدل والإصلاح، هو الذى انشغل قبل الثورة بأيام وهو يشاهد الثورتين التونسية والمصرية بسؤال جوهري: «ماذا عنا نحن؟ متى ستطرق الثورة أبوابنا؟ أم أنها قفزت من فوق رءوسنا نحن الليبيين واتجهت إلى الناحية الأخري؟ وفجأة وجد «المسماري» نفسه فى قلب الحدث، ليخبر العالم كله من خلال اتصال مع قناة الجزيرة – بأن الثورة الليبية قد بدأت، هذه اللحظة هى – على ما أعتقد مفتتح الحكاية – وباب السيرة الذى ظل مفتوحا على مصراعيه إلى تلك اللحظة التى نعيشها الآن. أراد إدريس المسمارى أن يكتب رواية ثورية «حية على برقة» لكنه وجد نفسه أمام رواية أشد واقعية، سطورها تنساب بالدم والتضحية إلى أن أطل فجر جديد مفعم بالحرية.