عزمى عبدالوهاب - زينب هاشم عشر سنوات قضاها إدريس المسمارى فى السجون الليبية، خضع خلالها للتعذيب، إلى أن أفرج عنه فى العام 1988، بعد تخفيف الحكم من الإعدام إلى المؤبد، كانت التجربة قاسية على شاب صغير آنذاك، لكنها علمته الكثير، لذلك لم يكن غريبا أن يكون هو صاحب أول اتصال بالعالم الخارجى، عبر إحدى الفضائيات، لينقل لنا ما يجرى فى ليبيا من ثورة على نظام فاسد دام حكمه 42 عاما. ألقى القبض ثانية على المسمارى أثناء ثورة فبراير، وتعرض لعملية إعدام وهمية كنوع من الإرهاب، لكنه استطاع الهروب من السجن، وها هو على رأس هيئة تشجيع الصحافة فى ليبيا. ربما كانت البداية من خلال إصدار مجلة «عراجين» من القاهرة.. ماذا عن تلك الخطوة؟ قمنا من خلال مجموعة من المثقفين والكتاب بإصدار المجلة وكانت هناك حرب ومنع كامل من السلطة السابقة ضد أى تحرك ثقافى مستقل، وما فعلناه كان نوعا من التحدى وكسرا للعزلة، لهذا اضطررنا لإصدارها فى مصر، وحوربت كثيرا من النظا م السابق، وتعرضت المجموعة القائمة على إصدارها لإغراءات مادية كثيرة، والمجلة الآن عندما تقرأها تعرف كل القضايا المتعلقة بالأوضاع الليبية، مثل عدم وجود دستور والدعوة إلى ضرورة وجود المجتمع المدنى. وماذا عن تجربة السجن التى مررت بها، هل كانت إيجابية أم سلبية؟ برغم الآلام والمعاناة فإنها كانت تجربة إيجابية، وقد ضاع جانب من العمر بها، لكنها جعلتنى أختلط بالعديد من المناضلين الليبيين، وأتعرف منهم على طريق ليبيا، لأن السجن كان يضم العديد من المساجين، وهم ليبيون قادمون من فزان والزاوية والجبل الغربى، ومنهم أيضا الأمازيغ، أى أنهم شخوص شكلوا الحالة الليبية بالكامل، و النقطة الثانية أن السجن يعلم الإنسان الصبر والدقة وهذه الثقافات التى يمتلكها المساجين تعكس تجارب حية مادية وإيجابية، وأهم شئ تتعلمه فى السجن هو الصمود، فهل يهزم الشخص السجن أم أن السجن يهزمه؟ من يهزم السجن هو الذى سيبقى، وقد دخلت السجن منذ 1977 حتى 1988، وبعد ذلك عشت فى ليبيا فترة، ثم حضرت إلى مصر، وكانت زوجتى تناقش الدكتوراه، وقد حرمت من استكمال دراستها أثناء وجودى فى السجن، لكنها استكملت دراستها للعلوم السياسية، وحضرت إلى مصر لمناقشة الدكتوراه. كيف كان التعامل معك بعد خروجك من السجن؟ النظام كان يتعرض لأزمات وهزات، كان يحاول أن يتملص منها بشكل من أشكال الانفتاح الثقافى، لكنه تأكد أنه بهذا السجن لن يهزمنا، فقد كان الحكم علينا فى البداية، بالإعدام ثم خفف إلى المؤبد ثم اكتشفنا أن هناك حكما قد صدر بالتصفية الجسدية، لكن بعد خروجنا من السجن شاركنا فى النشاط الثقافى الذى حاول أن يستوعبنا، وحاولنا تقديم عمل ثقافى جاد، ولم يتوقف القمع، لكن علاقتنا بالمثقفين العرب ومؤسسات حقوق الإنسان كانت قد توسعت، ما جعل هناك هيبة من المساس بنا. هل يعطل السجن المناضل؟ كثير من الأصدقاء ضعفت قدراتهم وخرجوا من السجن معزولين عن الحياة العامة ، وكانوا مبدعين حقيقيين، نحن لم ندخل السجن كمناضلين سياسيين، لكننا دخلنا كمثقفين وكتاب ندافع عن وجهة نظرنا، من هنا كان هناك كتاب وشعراء دخلوا معنا السجن، وعندما خرجوا لم يواصلوا مشوارهم الأدبى الثقافى، وهنا أسأل: هل من الضرورى أن تحمل منشورا أو سلاحا لكى تكون مناضلا. هناك مشروع الثقافة وهو المفهوم الأعمق، فالنضال ليس بالتجمعات الحزبية أو القتالية. عندما كتبت كتاب «سيرة فبراير» تعرضت لتجربتك فى السجن، فهل كانت فى ذهنك تجارب أخرى؟ سيرة فبراير تحديدا جزء منه عن تجربة السجن أثناء ثورة فبراير منذ يوم 15 وحتى 22، وبعد ذلك بقيت فى شبه إقامة جبرية أنا وصديق لى، وفى هذه التجربة عشنا ليال مرعبة فى السجن، عملوا لنا عملية إعدام وهمى، الكتاب فى مجمله يتناول آخر 6 أشهر من وجودى فى طرابلس فى ظروف صعبة جدا من خوف ومطاردات، وكانت الثورة مشتعلة والحرب قائمة، وعرضت للتحقيقيات التى جرت معى والضغوط التى مورست على، أما تجربة السجن الأولى فلم أكتبها، لأنه أحيانا يكون هناك تشابه ونمطية للتجربة، فأغلب السجناء يكتبون ما وقع معهم، وهى تجربة يتشابه فيه الجميع. من خلال تجربتك التى عشتها ومن خلال قراءاتك هل تتشابه السجون العربية؟ تتشابه بشكل كبير جدا خصوصا فى ظل نظام القمع ومحاولة كسر إرادة السجين، وكانت هناك آلية دائمة للقمع، وهى سماع خطابات القذافى والأناشيد، والشئ المفيد فى هذا السياق أننا عندما سجنا عام 1977 كنا قد قرأنا كتب السجون أيام عبدالناصر مثل «شيوعيون وناصريون، والأقدام العارية»، لذلك دخلنا التجربة ولم نفاجأ بأشياء كثيرة: مثلا الحفلة التى يقيمونها عند دخولنا السجن، من الضرب والركل والكلاب التى يطلقونها علينا، وكنا نقول عن ذلك إنه فيلم مصرى أبيض وأسود، وكانت هذه القراءات تمنحنا حصانة ما. فى ثورات الربيع العربى دائما ما يشار إلى المثقفين على أنهم مغيبون، فهل ينطبق ذلك على المثقفين الليبيين فى علاقتهم بالثورة؟ لا أحب التعميم فليس من المفترض أن يقوم الفنان بمجهود سياسى أو يحمل السلاح ويذهب للجبهة ويقاتل، فأدوار المثقفين وجهودهم تتعدد، وهى حالة موجودة دائما، هناك إشكالية فى تعريف الثوار، فكل امرأة كانت تعد الغذاء فى المطبخ ثائرة، وأيضا الممرضة ثائرة، كلهم ثوار بشكل أو بآخر، وقد يكون دورك أن تكتب مقالة أو قصيدة جيدة، أو تؤلف مقطوعة موسيقية. لماذا دائما يتم اختصار المشهد الليبى الأدبي والثقافى فى اسم إبراهيم الكونى؟ ربما كان هناك ضعف فى فترة من الفترات فى مناطق كثيرة، ومن هنا برز الكونى وأحمد إبراهيم الفقيه، لكن فى الأيام الأخيرة ظهر العديد من الأعمال التى تستحق أن تبرز، فهناك مشهد غنى لأسماء كثيرة فى مجال القصة و الشعر. هل كان إبراهيم الكونى مدعوما من النظام الليبى مثلما تردد؟ كان موظفا دبلوماسيا، وكانت له قضية خاصة، ولا أريد أن أدافع أو أدين الكونى أو غيره، فالنظام كان يخاف من المثقفين ويتعامل معهم بسياسة الجزرة والعصا، وكلما كبر المثقف فى قيمته هابه النظام أكثر، وهذا هو قدر الكونى وغيره من المثقفين، كان النظام يهددهم وفى نفس الوقت يهابهم، ومن هذا المنحى عين ملحقا فى السفارة الليبية بسويسرا، وما يجب أن يحاسب عليه الكونى هو عمله الفنى، هل كان جيدا أم لا؟ هل كانت كتابات الصادق النيهوم مؤثرة فى المشهد داخل ليبيا؟ الصادق النيهوم حالة فريدة من الكتابة الإبداعية، كان واحدا من الذين كتبوا وصنعوا أسلوبا نستطيع القول إنه أسلوب ليبى، نحن أمام مدرسة حاول الكثيرون تقليدها والمشى خلفها. ليبيا بلد غنى بتروليا، ومع ذلك كان يعانى أزمات اقتصادية لماذا صمد النظام كل هذه السنوات؟ ليبيا لم تكن بها أحزاب أو مؤسسات، و النظام أصاب الليبيين بصدمة، فقد علق الناس فى الشوارع، وأخذ الجثث ورمى بها فى النفايات، والمجتمع لم يتعود هذا الشكل إلا أيام الاحتلال الإيطالى الفاشى، ومن ناحية أخرى منح هذا النظام الفاشى م ع مجئ البترول بعض الامتيازات للبسطاء، ومن ناحية أخرى هذا النظام قامت ضده 120 محاولة انقلاب، غير الآلاف الذين دخلوا السجن، أى أن الشعب الليبى لم يكن صامتا على ما يفعله النظام طوال 42 سنة. لكن لم يكن هناك إمكانية لثورة حقيقية فى ليبيا ما لم يتغير جناحا القمع فى تونس ومصر. هل الناتو هو الذى حسم مصير القذافى؟ أتذكر كلمة مهمة قالها المناضل المصرى أحمد بهاء الدين شعبان حين التقينا، قال لى: «أنا أنظر إلى ما يحدث على الأرض، أما السماء فلا شأن لى بها»، ويجب ألا ننسى أن الليبيين رفضوا أن تنزل قدم أجنبية على الأرض، برغم مرور أيام صعبة على مصراطة، أنا لا أنكر دور الناتو فى تحرير ليبيا، لكن الدور الأساسى كان لليبيين. على خلاف ما حدث فى مصر وتونس فوجئنا بتيارات ليبرالية ويسارية تحصد نتائج النسبة الأكبر فى الانتخابات النيابية.. كيف تفسر ذلك؟ المجتمع الليبى وسطى، وليس هناك مجال لأى تطرف، هناك شعب بسيط لديه إيمان هادئ ولا يميل إلى التطرف فى أى شئ، بل يطمح فى أن يعيش حياة بسيطة هادئة، وشعب ليبيا مسلم ليس به طوائف حتى الإثنيات مسلمة، وجماعات الإسلام السياسى ليست قوية بالمعنى المعروف، قوتها فى قوة السلاح وليست فى احتشاد الجماهير خلفها. التنوع فى ليبيا ما بين الأمازيغ وغيرها من إثنيات.. هل أفاد الثورة؟ الثورة أعادت الاعتبار لليبيين لأنهم كانوا مقهورين بشكل كبير، فالنظام كان يذوب الجميع فى هوية واحدة اسمها الأمة العربية الكبرى، وبهذا ضرب نسيجهم الاجتماعى وهويتهم، فكانوا من أوائل من انتفض ضد النظام. بعد أن اعتاد الليبيون على سماع صوت واحد فى الإعلام الآن، كيف ترى حال الصحافة فى ليبيا؟ عدد الصحف وصل إلى 450 جريدة، كانت هناك ثورة عارمة، ودخل المهنة أشخاص غير مختصين فى المجال الصحفى، لكن هناك حرية تعبير لا حدود لها فى ليبيا الآن، قد تجد عدم مهنية لدى قطاع كبير يمارس العمل الصحفى، لكننا نقدم دورات تدريبية، وهناك مواهب شابة تحتاج للصبر. ألا تمارس رقابة من أى نوع على المطبوعات؟ إطلاقا، أول شئ طلبته هو فصل الإدارة عن التحرير، ولا يهمنى أن أكون صوتا رسميا ممولا من الدولة، الأهم أن تكون هناك موضوعية فى التناول.