ويمكن القول باطمئنان إن جمال عبدالناصر هو أول حاكم مصرى وضع المرأة المصرية فى وضعها الصحيح كعنصر فاعل ومتكافئ مع الرجل فى المجالات السياسية والتشريعية والثقافية والتعليمية والمجتمعية، متفوقا فى ذلك على جميع من سبقوه من حكام حتى أكثرهم ليبرالية. وإذا كان بعض المتنطعين من خصوم المرأة يزعمون أن ما تحقق من إنجازات لاحقة خاصة فى قوانين الأحوال الشخصية تعطى المرأة بعض حقوقها قد جاء نتيجة نفوذ غير مفترض لزوجتى الرئيسين السادات ومبارك، فإن أحدا لا يمكنه أن يزعم أن زوجة عبدالناصر كانت تمارس أى دور فى أى مجال، إذ نأت بنفسها عن أى تدخل فى شئون لا تخص أسرتها وبيتها. ولقد يتعجب البعض من أن هذا الرجل الصارم المتجهم دوما والذى يبدو فى صوره مهموما، والذى لم يعرف عنه أى تقارب من العلاقات الاجتماعية كان الأكثر حنانا على قضايا المرأة والطفل ذلك أنه اعتبر أن تقدم المرأة هو تقدم لمصر والنهوض بحقوقها هو نهوض بحقوق كل المصريين، ولعل من حق القارئ والحال هكذا أن يتعرف ولو بسرعة على العلاقة بين جمال عبدالناصر والمرأة سواء فى شبابه أو بعد زواجه، ونبدأ بحادث هز كيانه وهو صغير ففى 1952 ترك عبدالناصر والدته السيدة فهيمة محمد حماد فى الخطاطبة بمديرية البحيرة ليلتحق بمدرسة النحاسين بالجمالية مقيما عند عمه "خليل" وعندما سافر فى العطلة الصيفية إلى بيته متلهفا لأحضان أمه، دق الباب دقات متلاحقة لكن سيدة أخرى لا يعرفها فتحت الباب وأفهمته أن أمه توفيت منذ أسابيع ولم يخبره أحد بذلك وأنها زوجة أبيه، هزت المفاجأة كيان جمال ولعلها تركت أثرا ما لا يمحي، ولكن ماذا عن الحب؟ كان موجودا ولكن بمواصفات شديدة الالتزام والاتزان ونقرأ فى خطاب أرسله إلى صديقه القديم منذ كانا معا فى مدرسة النهضة الثانوية بالظاهر "حسن النشرتي" عندما كنت أسير فى حى الظاهر رأيت شقراء، هيفاء، كحيلة العين تعمل مدرسة فى مدرسة الفنون التطريزية تمشى وحدها ووجدت نفسى أدندن بصوت نصف مسموع أغنية عبدالوهاب "جفنه علم الغزل" وطبعا أظنك تقدر تعرف إيه اللى جرى لى فى تلك الساعة، وبعد جهد جهيد ومحاذر عرف الضابط الشاب منزل هذه التى خطفت قلبه، ولكن الحب كان صامتا ويكتب جمال النشرتى "ويشهد الله بأنى لم أحاول تتبعها ولا معاكستها حتى أنزه نفسى عن عبث الشباب وحتى لا يقال عنها القيل والقال" (شفيق أحمد على – المرأة التى أحبها عبدالناصر (1966) – ص164) ويبدو أن فرصة أخرى واتت نفسها لجمال إذ رآها مرة أخرى خلال حفل مدرسة النهضة الثانوية بنات عندما كانت طالبة بها "أخبار اليوم 18 – 2 – 1989 مقال لمحسن محمد) وتقدم جمال لأسرتها طالبا الزواج منها لكن الأسرة رفضت لأن لها أختين أكبر منها والتقاليد تمنع أن تتزوج قبلهما" و"سكن الحزن قلب الضابط الشاب ولم ينس طيفها طوال حياته، وعندما توفيت فى 28 مايو 1970 وكانت قد تزوجت من أستاذ بكلية المعلمين، أى قبل رحيل عبدالناصر بأربعة أشهر سار عبدالناصر بسيارته خلف جنازتها فى سيارته بنظارة سوداء تخفى ملامحه ليقدم لمحبوبته القديمة تحية وداع (شفيق أحمد على – المرجع السابق) وبعد أن رفضت أسرة من أسرة قلبه طلب يد أخت صديقه عبدالحميد كاظم، فتاة سمراء هادئة وديعة وفى أول لقاء وبحضور الأسرة قال "أنا مش جاى أختار أنا واخد قرار، وتمت الخطوبة فى يناير 1944، واشترطت الأسرة المحافظة أن خروجها مع خطيبها يجب أن يكون بحضور طرف ثالث، وخلال أشهر الخطوبة وهى ستة أشهر خرجا عدة مرات إلى السينما أو لمشاهدة مسرحيات الريحانى وكان جمال حريصا على أن يجلسا فى بنوار خاص منعا للاختلاط، ولم يذهب جمال لزيارتها إلا ومعه علبة شوكولاتة.. محافظا على بروتوكول محافظ، وفى 29 يونيو تزوجا، وفى شقة صغيرة فى شارع الجلالى بالقرب من شارع أحمد سعيد أقاما وهناك قضت السيدة تحية وأولادها طوال فترة وجود جمال فى فلسطين ولما عاد من الحرب انتقلا إلى شقة أوسع فى كوبرى القبة وثمة نسخ من رسائل السيدة تحية إلى زوجها خلال وجوده فى ميدان القتال بفلسطين "د. عبدالمنعم الجميعى – عبدالناصر والمرأة – بحث منشور ضمن الكتاب التكريمى للأستاذة الدكتورة لطيفة سالم – رؤى فى التاريخ الحديث والمعاصر – ص657 وما بعدها)، لكن الرسائل متحفظة وهادئة "عزيزى جمال.. أهديك سلامى وأشواقى وقبلاتى الحارة.. هدى ومنى بخير، هدى بتشد القلم منى وعايزة تكتب إن شاء الله تحضر قريبا وأرسل لى دائما لأكون فى اطمئنان" (خطاب فى 19 مايو 1948) وفى رسائل أخرى نقرأ "وحشتنى جدا يا حبيبى وكل ما يهمنى الآن أن أقرأ خطاب عليه خطك فهو أحسن شيء عندى فى الوجود، أكثر من الخطابات يا جمال فهى شفاء لنفسى وكل سعادتي، منى كعادتها بتسأل دائما بابا فين وهدى بتقول لها بابا راح يجيب بستلية وحاجات حلوة" (خطاب بتاريخ 28 مايو 1948) وفى 19 يونيو تكتب "وصلنى جوابك المفرح، ما أشد فرحى بقرب حضورك يا حبيبي" ونلاحظ أن السيدة تحية لم تذكر فى خطاباتها الأبناء الذكور" (نشرت هذه الخطابات أيضا فى جريدة صوت الأمة 15 نوفمبر 2004 – دراسة لعادل حمودة بعنوان: خطابات تحية إلى جمال عبدالناصر وأسرار حياتهما الخاصة". وعندما أصبح جمال رئيسا ظلت تحية كما هى فى ظل زوجها مكرسة حياتها له وللأولاد وكانت تطبخ بنفسها الأكلات التى يحبها وعبدالناصر يمتدح ما تطبخه ويقول للأولاد "أكل أمكم مفيش زيه"، ولم تكن تخاطب زوجها أمام أى ضيوف باسمه وإنما بالريس.. ظلت مع حضور الضيوف خجولا وهادئة ومتواضعة كما أنها لم تكن تشارك أبدا فى أى أحاديث سياسية (جيهان السادات – امرأة من مصر – ص185) ويقول سكرتيره محمود الجيار "لم أشاهد فى حياتى رجلا يحترم زوجته مثل عبدالناصر" (حوار فى روز اليوسف 29 مارس 1976) أما الأولاد فالحب والحزم والابتعاد بهم عن الأحاديث والصراعات السياسية (محمود مراد – حوار مع هدى عبدالناصر (1975) – ص32) وأيضا عادل حمودة – حكومات غرف النوم – (1994) – ص124)، ويقول خالد عبدالناصر تحت عنوان "أمى تحية" إن تحية كانت بالنسبة لعبدالناصر "ظهره وسنده القوى الذى يفيض حنانا، مما جعله يكن لها ولاء خاصا، ولا يقبل أن يغضبها أحد مهما كان أو أن يحزنها أى شيء" (حديث لخالد عبدالناصر – بعنوان أمى تحية – جريدة العربى الناصرى – 17 يوليو 2005). والآن يمكننا أن ننتقل للحديث عما قدمه جمال للمرأة المصرية من تشريعات وقوانين وممارسات نهضت بها فى مختلف المجالات.